إقناع المواطن التركي بالوقوف إلى جانبه في إنجاز خطط نقل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وإنجاز عملية التغيير السياسي والدستوري
بعد تمرير رزمة التعديلات الدستورية في استفتاء شعبي حاد منتصف أبريل المنصرم، وسط نتائج لم تفصل سوى بنقطة واحدة لصالح ما يريده حزب العدالة والتنمية وشريكه الجديد في تقاسم السلطة حزب الحركة القومية اليميني، يجد النظام السياسي التركي نفسه أمام اختبار دستوري وحزبي جديد ستتوضح نتائجه وارتداداته على الداخل، ومدى قبول الناخب لعملية التغيير الجذري هذه اعتباراً من الربع الأول للسنة القادمة، حيث تجري انتخابات برلمانية ومحلية ورئاسية بالغة الأهمية.
في المقابل هناك حقيقة أخرى ستؤثر في قرار الناخب التركي حتما وهي العدد الكبير من الأزمات والمشاكل، بينها الداخلية والخارجية وتتقدمها قضايا دائمة السخونة مثل طريقة تعامل القيادات السياسية التركية مع التوتر المستمر في العلاقات التركية السورية والتركية العراقية، إلى جانب أزمات لا تنتهي مع الشركاء والحلفاء مثل أمريكا وإسرائيل والعواصم الأوروبية والكثير من دول المنطقة، دون التوقف مطولاً عند ملفات إقليمية حساسة، مثل الملف الأرمني والكردي والقبرصي واستخراج وتصدير الطاقة في شرق المتوسط ومسألة العضوية التركية المتراجعة في الاتحاد الأوروبي أو إغفال المشاكل الاقتصادية والمالية التي تفاعلت في الأسابيع الأخيرة.
هل ستكفي الأشهر القليلة المقبلة قوى المعارضة التركية لنفض الغبار والخروج أمام الناخب التركي بحلة جديدة ومواقف موحدة متماسكة تقنعه بالذهاب من ورائها إلى الصناديق كما فعلت في أبريل العام الماضي خلال الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية؟
انطلاقا من ذلك يرى البعض أن تجميد كل هذه القضايا قبل البحث عن حلول جذرية لها بات مرتبطاً بالحقبة السياسية المقبلة في البلاد ومعرفة من الذي سيقود المرحلة الجديدة على ضوء هذه الاستحقاقات التي ستجري العام القادم، وتحمل الناخب التركي 3 مرات متتالية الى صناديق الاقتراع.
من هذا المنطلق يعرف حزب العدالة والتنمية الذي يقود تركيا منذ عام 2002 أن الشعارات التي يرفعها حول خطورة المرحلة، وضرورة التضامن للرد على مخططات استهداف تركيا من الداخل والخارج لن تكفيه؛ وأن ما ينتظره سياسياً وحزبياً في الأشهر المقبلة يتطلب:
إقناع المواطن التركي بالوقوف إلى جانبه في إنجاز خطط نقل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وإنجاز عملية التغيير السياسي والدستوري.
وتبرير أسباب التحالف الحزبي الذي ينجزه الحزب الحاكم مع حزب الحركة القومية اليميني خصمه السياسي حتى الأمس القريب، ووقوف قواعده الانتخابية وراء هذا الاصطفاف الجديد الذي سيعني الشراكة بين الحزبين وتقاسم النفوذ البرلماني والحكومي بدل تفرد حزب العدالة بالسلطة لوحده طيلة 16عاماً كاملاً، وإبقاء الحزب موحداً ومتماسكاً وراء قياداته التي تطالبه بقبول مرحلة التغيير الجديدة والتأقلم معها، ثم حماية المسافة الصوتية التي تفصل بينه وبين بقية أحزاب المعارضة التي بدأت تلوح هي الأخرى بالاصطفاف السياسي والحزبي تحت سقف واحد رداً على قرار التحالف الذي اتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وخصمه القديم دولت باهتشلي، والحؤول دون وقوع أية مفاجآت داخلية اقتصادية وسياسية وهي تطلعات تتطلب الكثير من التماسك والدعم والتجييش وسط هبات سياسية واقتصادية متلاحقة.
فكيف سينجح حزب العدالة والتنمية في إقناع ناخبيه بقبول طرح تقاسم السلطة مع حزب آخر، وربط مصيره السياسي بهذا الحزب في صناديق الاقتراع، ومحاولة التمسك بالدفاع عن الشعارات والخطط التي طرحها عام 2002 وحملته إلى التفرد بالسلطة حتى اليوم لكنه مجبر على تعديلها وتغييرها، آخذاً بعين الاعتبار ما يقوله ويريده شريكه الجديد هذه المرة؟.
قيادات الحزب الحاكم تريد البقاء في السلطة والإمساك بدفة القيادة حتى ولو كان الثمن إشراك حزب آخر معها ستجمعهما وحدة القدر السياسي والحزبي، والتحاصص الذي لم تعرف البلاد نموذجاً مشابهاً له كونه يختلف تماماً عن تفاهمات الائتلاف الحكومي الذي هو أصلاً حلقة في المسار الديمقراطي ومن سماته ومتطلباته، فهل يكون لها ما تريد.
بشكل آخر، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الحكم حتى منتصف عام 2019، وهو يتطلع للبقاء في السلطة حتى عام 2023 ، لكن ذلك يتطلب ثمناً سياسياً وحزبياً باهظاً في مقدمته قبول الشراكة الدائمة وتقاسم القرار والصلاحيات مع حزب صغير يوفر له ضمانة البقاء على كرسي الحكم في صيغة تفاهمية على مستوى القيادات لكننا لا نعرف بعد حجم ارتداداتها على القواعد الشعبية في الحزبين ومدى استعدادها لقبول هذه الحالة الجديدة.
اعتباراً من أواخر العام المقبل، وفي حال وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى ما يريده ستكون هناك تركيا أخرى تُدار بطريقة أخرى وبأسلوب قيادي آخر، يتجاوز موضوع تغيير شكل النظام إلى رئاسي، بل حكم الرأسين في حزبين سياسيين اتفقا على رسم خارطة البلاد السياسية والدستورية الجديدة، وهي حالة فريدة من نوعها تتطلب الكثير من الرصد والمتابعة كنموذج فريد بالمقارنة مع أنظمة تقاسم السلطات، وتحاصصها في الأنظمة الغربية والليبرالية المعروفة.
الامتحان الآخر الذي ينتظر تركيا هو أن الشكل الدستوري والسياسي والحزبي الجديد؛ الذي سيظهر إلى العلن بعد عام يعني في أحسن الأحوال اختبار وضعية جديدة ونموذج مختلف من نماذج المشاركة في الإدارة وصناعة القرار، وسط جملة من التحالفات ومنظومة التعاون التركي مع العديد من التكتلات السياسية والأمنية والاقتصادية في العالم، فهل تنجح تركيا في اختبار من هذا النوع؟.
قوى المعارضة التركية التي تعارض إقحام البلاد في مغامرة من هذا النوع تبحث هي الأخرى عن خطط بناء منظومة تحالفات سياسية وحزبية طريقها الوحيد للرد والخروج منتصرة في الصناديق، فهل يمنحها الناخب التركي ما تريده وهو يعرف أن ائتلافها هذا يوحد التناقضات والرؤى الحزبية والعقائدية والفكرية المتباعدة ولا يختلف كثيراً عن تحالف حزبي العدالة والحركة القومية؟.
المواجهة الأخرى ستبرز خلال الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية، حيث سيختار المواطن التركي مرشحه مباشرة لوضع النقطة النهائية على خطة التغيير الجذري في إدارة شؤون البلاد. أردوغان يقود منذ أشهر طويلة حملته الرئاسية مركزاً على أهمية قرار الناخب في التصدي لخطط استهداف البلاد من الداخل والخارج كما يقول، لكن المعارضة لم تعلن قرارها بعد حول إذا ما كانت ستصطف وراء مرشح مشترك يمثلها أم هي ستتشرذم وراء أكثر من شخص تختاره لمنافسة أردوغان على مقعد الرئاسة.
مشكلة الحزب الحاكم الأكبر والأهم تبقى أن ما يقوله شريكه في معالجة الكثير من الملفات السياسية والاجتماعية في الداخل، وتنظيم علاقات تركيا مع الخارج تختلف عن طرح وأسلوب حزب العدالة نفسه حتى الآن . معالجة ملفات حساسة مثل القضية الكردية والموضوع الأرمني والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي والنظرة إلى العلاقة مع الجمهوريات التركية، وأسلوب اتخاذ القرارات في قضايا اقتصادية وإنمائية وطنية وقومية قد تواجه صعوبات حقيقية إذا ما عدنا إلى البرامج الحزبية والتطلعات والرؤى السياسية التي يعتمدها الحزبان، فهل ستذهب القيادات في الحزبين نحو مراجعة شعاراتها وأيديولوجياتها هذه المرة؟.
تركيا في العام المقبل ستعطي الأولوية في خياراتها لإنجاز عملية الانتخابات التي ستتحول إلى مفصل سياسي ودستوري، يحدد شكل خارطة البلاد لعقود طويلة ربما، لكن النتائج التي ستقولها الصناديق هي أبعد من عملية اختيار رئيس أو حكومة جديدة هذه المرة، فالذي سيُناقش هو خطط رسم سياسات التحول والتغيير في التحالفات والتفاهمات الاستراتيجية التي بنتها تركيا في علاقاتها الإقليمية والدولية منذ قرن تقريباً، فهل يعرف الناخب التركي أهمية ما سيقدم عليه بعد أقل من عام؟
أردوغان يقول إن ما سيجري بعد عام يقلق البعض ويحرمهم النوم وأن هناك من يريد الهيمنة على قرار وإرادة الناخب التركي منذ الآن لكننا في جميع الأحوال سنغلق ملف تركيا القديمة ونذهب وراء فتح ملف تركيا الجديدة رغم كل العراقيل. وحزب العدالة والتنمية يقول إنه يريد إنقاذ تركيا من حكم الرأسين في السلطة والقرار، لكنه مع إشراك حزب آخر من أجل الوصول إلى ما يريده يعرّضه لمشاكل حزبية وسياسية أكبر في المرحلة المقبلة وخصوصاً عند الانتقال إلى مرحلة التطبيق واتخاذ القرارات ورسم السياسات في ملفات داخلية وخارجية شائكة كثيرة.
بعض الأقلام المقربة من الحكم بدأت منذ اليوم التذكير بسلبيات فترة حكم عبد الله غل كونه المرشح الأوفر حظاً في أوساط المعارضة لمنافسة أردوغان على مقعد الرئاسة، البعض يقول أيضاً أن طبخة عبد الله غل التي تعد لها بعض القوى السياسية واللوبيات ستحترق وأنها قد لا تكتمل لأن غل نفسه لا يبدو متحمساً للدخول في مغامرة سياسية من هذا النوع.
الرئيس التركي قد يكون محقاً في موضوعين يتحمل المواطن التركي المسؤولية الاولى بشأنهما، انتخابات العام القادم ستحدد مستقبل البلاد لنصف قرن مقبل على الأقل، والمنافس هو معارضة مفككة خسرت كل الانتخابات التي خاضتها منذ عام 2002 وحتى الآن في مواجهة حزب العدالة والتنمية، ولا تحظى بثقة المواطن في قدرتها على أن تكون منافساً حقيقاً لحزب العدالة أمام الاستحقاقات الكبيرة المقبلة خصوصاً بعدما كسب الحزب الحاكم قيادات حزب الحركة القومية إلى جانبه ليضمن تجاوز حاجز 50 بالمئة من مجموع الأصوات المطلوبة في اختيار الرئيس التركي الجديد، فهل ستكفي الأشهر القليلة المقبلة قوى المعارضة التركية لنفض الغبار والخروج أمام الناخب التركي بحلة جديدة ومواقف موحدة متماسكة تقنعه بالذهاب من ورائها إلى الصناديق كما فعلت في أبريل / نيسان العام الماضي خلال الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، والتي حصلت خلالها على 49 بالمئة من مجموع الأصوات
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة