العلاقة بين الماء والسياسة قديمة في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
ففي خمسينيات القرن الماضي، خاضت مصر معركة سياسية كبيرة لتمويل بناء السد العالي، وكانت تحلية المياه وتوفير الماء العذب أحد أهم التحديات التي واجهت خطط التنمية في الدول الخليجية، فيما تدور الآن أزمة بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن تأثير بناء السد الإثيوبي على حِصص مياه دولتي المصب.
ومناسبة هذا الحديث، النقص المتزايد لكميات المياه في نهريْ دجلة والفُرات في العراق بسبب السياسات المائية التركية.
وهذان النهران يُمثلان المصدر الرئيسي للمياه في العراق، وهما ينبعان من تركيا، ويعبران الحدود إلى سوريا ومنها إلى العراق، ثم يلتقيان ويصبان في شط العرب.
أدت السياسة المائية التركية إلى انخفاض منسوب النهرين في مايو 2021 إلى معدلات غير مسبوقة، إذ انخفضت المياه أكثر من 5 أمتار، أي ما يعادل نصف ما كانت عليه المناسيب مقارنة بالأعوام السابقة، وذلك حسبما أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية، خاصة في محافظات الجنوب، التي أصبحت مياه الشرب فيها مُهدَّدة بالتوقف.
وعلى سبيل المثال، فقد انخفض منسوب المياه في نهر دجلة إلى الدرجة التي يستطيع فيها المرء السير فيه دون أن تصل المياه إلى ركبتيه، وتم تداول الصور الدالة على ذلك في القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي.
ترتَّبت على هذا الانخفاض آثار اقتصادية شديدة، كعدم توافر المياه اللازمة للزراعة، ما أدى إلى تبوير عشرات الآلاف من الدونمات، "الدونم يعادل 2500 متر مربع" في العراق.
ويدل على ذلك أن وزارة الزراعة العراقية أعلنت عن خطة لزراعة 1.8 مليون "دونم" من المحاصيل الاستراتيجية في موسم الزراعة الصيفية لعام 2021، وهو رقم يقل بمليون "دونم" عن العام الماضي.
وزاد الطين بلة، ترافُق ذلك مع انخفاض نسب هطول الأمطار، وقيام إيران بمنع وصول مياه عدد من الروافد المائية، التي تنبع من أراضيها إلى العراق، والتي مثَّلت 35% من إجمالي الواردات المائية العراقية وتحويل مجراها إلى الداخل الإيراني.
يواجه العراق أيضاً آثارا بيئية وخيمة نتيجة لاستمرار انخفاض منسوب مياه النهرين، إذ حذَّر الخبراء من احتمال ارتفاع درجة الحرارة وقلة الأكسجين في الهواء وقتل العديد من الكائنات الحية في المناطق التي تتعرض للجفاف، ونبهوا أيضاً إلى انخفاض جودة المياه، وزيادة تركز المواد السامة العالقة فيها، ونفوق الأسماك.
السبب المباشر لهذه الأزمة هو قيام تركيا ببناء مجموعة سدود على مجري النهرين في مدى يزيد على أربعين عاماً، مستندة في ذلك إلى ذريعة "ممارسة السيادة" على مواردها المائية.
وظهر ذلك في المباحثات، التي تمت بينها وبين كل من العراق وسوريا عام 1974 بشأن ملء خزان سدي كيبان والطبقة، وتلك التي أعقبت بناء سد أتاتورك عام 1992.
وفي 1996، صرح رئيس وزرائها، سليمان ديميريل، بأن العراق وسوريا "ليس لهما أي حقوق في المياه النابعة من الأراضي التركية".
وعلى مدى السنين، استمرت المباحثات بشكلٍ متقطع حرصت فيها تركيا على المماطلة وكسب الوقت وعدم التعهد بأي التزامات قانونية مستقبلية، وذلك حتى تستكمل تنفيذ مشروع تنمية جنوب شرق الأناضول وبناء 11 سداً على نهر دجلة، و8 سدود على نهر الفُرات، أحدثها سد جارزان 2012، وسد إليسو 2018، وسد سيلفان، المُخطَّط الانتهاء منه 2022.
في مثل هذه الأمور، فإن ما يتم الوصول إليه من اتفاقات وتفاهمات يكون عادة نتيجة لمزيج من الاعتبارات القانونية والسياسية.
من الناحية القانونية، فالعراق صاحب حق، والرأي التركي بشأن السيادة على مياه الفُرات لا أساس له وفقاً لأحكام اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1997، ودخلت طور التنفيذ في أغسطس 2014، والتي أقرت مبادئ الاستخدام العادل والمُنصف للمصادر المائية بين الدول، والمسؤولية الدولية الناشئة عن قيام إحدى الدول بأفعال يكون من شأنها الإضرار بالدول الأخرى، والأرجح أنه بسبب ذلك، فإن تركيا لم تنضم إلى هذه الاتفاقية.
ومن الناحية السياسية، فإن الأمر يخضع للمفاوضات وتوازن القوى بين الأطراف المُتنازِعة.
في هذا السياق، أرسل العراق وفداً فنياً في 21 يونيو الماضي إلى تركيا للتباحث بشأن الاختناقات المائية التي واجهها العراقيون هذا العام.
ولم تصل المفاوضات إلى نتائج محددة، وأرجعت وسائل الإعلام التركية نقص المياه في العراق إلى "إخفاق حكوماته المتتالية عن بناء السدود وتطوير الوسائل للاستفادة من الموارد المائية المتاحة أفضل استخدام".
ومن مُفارقات الزمان، أن العراق الذي اشتُهر باسم "بلاد الرافدين"، نسبة إلى دجلة والفُرات، يُعاني اليوم من شُح المياه بسبب السياسات التركية والإيرانية، التي تستخدم المياه كـ"ورقة ضغط" على العراق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة