لا ينكر متابع تلك الظروف الصعبة، التي يعانيها العراق، بعد سنوات مريرة شهدها في السنوات القليلة الماضية.
إلا أنّ حكومة رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمي"، التي جاءت لتنفيذ مهام رئيسة، تحاول سدَّ فراغ نجم عن استقالة سابقه، عادل عبدالمهدي، وتعثر العملية السياسية بعدم وجود حكومة تستند لزخمٍ سياسيٍّ يسيطر على المشهد, كما أنها تحاول أن تعمل لتهيئة البلاد لإجراء انتخابات رسميةٍ في غضون عامين.
هذا الأمر جعل الكثير يعتقد بأنّ هذه الحكومة ورئيسها من الضعف بمكان بما يسمح لكل عابثٍ أن يرى فيها فرصة لتحقيق أهداف الأجندات، التي يخدمها, إلا أنّ الواقع يتمثل في أنّ "حكومة الكاظمي" لا تزال تثبت قوتها في مواجهة عواصف المخربين, وذلك من خلال تعاملها المباشر والقوي مع الملفات المعقدة، التي تشكل محور معاناة العراق والعراقيين في هذه المرحلة، ومنها:
أولاً، فرض سيادة القانون، فالقانون هو المستهدف الأول على الساحة العراقية، لأنّ التغول عليه هو الملاذ الآمن لكل فاسدٍ ومخرّبٍ ومرتبطٍ بالمشاريع التي من شأنها نخر عظام العراق, لذلك نرى أنّ أبرز ما يواجهه العراق اليوم هو المحاولات البائسة لبعض الجماعات بُغية عرقلة القانون, لذلك تجدها تتصرف كأنها فوق الدولة، مستندةً إلى تكريس معادلة السلاح المنفلت تحت تسميات، مهما كانت براقة، إلا أنها لا تُخفي حقيقة كونها تضرب الاستقرار ومفهوم الدولة وتُرهب المواطنين باختلاف مكاناتهم وانتماءاتهم ومعتقداتهم, وهو ما تصدّى له "الكاظمي" بحزمٍ مطلقٍ قولاً وفعلاً, ورفضه الدائم لهذا المبدأ وعدم التهاون به، رغم إدراكه التام لصعوبته وما يتطلبه من جهد وتضحية, لذلك طالما كان يطلق على نفسه "الشهيد الحي"، إشارةً إلى كونه مستعدٌّا للموت في سبيل ذلك.
آخر مظهرٍ من مظاهر هذا الملف يتجسد باعتقال "قاسم مصلح"، القائد المليشياوي البارز والذي خرق القانون العراقي بالاعتداء على كثير من العراقيين, ولكنّ الحكومة لم تتوانَ في اعتقاله وإخضاعه لسلطة القانون والقضاء, وأوضحت الحكومة الأمر في ردها على من يهددها ليلاً نهاراً على اتخاذها هذا الإجراء بأنها "تحتكم إلى القانون", وأنّها أوقفته وفق مادة قانونية تحمل الرقم "4 إرهاب" من القانون العراقي, وأنّ القضاء العراقي هو الفيصل في القضية.
ولا تزال حكومة "الكاظمي" مستمرة بحزمٍ في مسارها القانوني هذا، رغم اغتيال ضابط مخابرات عراقي، والذي قد يكون تنفيذا للتهديدات الموجهة للحكومة، التي لم تدعُ بعد حادث الاغتيال إلا إلى إجراء التحقيق وتطبيق القانون.
ثانيا، تجنب الفراغ السياسي، وهو ما لا يريد العراق أنْ يعيشه, أو يمر به ولا حتى جيرانه وحلفاؤه، لما لأمن العراق من أهمية كبرى لا تتجزأ عن أمن المنطقة ككل، لذلك عندما يفشل مَن يريد جرف العراق إلى المزالق الخطرة بكسر عظم الحكومة العراقية وثنْيها عن تطبيق مفهوم الدولة وتعزيز سيادة القانون, يلجأ إلى محاولة تعقيد المشهد السياسي والأمني، للحيلولة دون إنجاح العملية الانتخابية المرتقبة في تحدٍّ واضح لجهود الحكومة في هذا الملف، ومحاولة لتذكيرها بضعف خلفيتها السياسية بعدم استنادها إلى كتلة سياسية تنتمي إليها, وهو ما واجهته الحكومة بوضوحٍ بإعلان أنّ الانتخابات ستكون في موعدها المحدد في أكتوبر/ تشرين الأول 2021, وأنّ الكتل السياسية مطالبة بإعداد قوائم مرشحيها وتكتلاتها في موعدها, وهذا مؤشرٌ إلى أنّ الحياة السياسية والعملية الانتخابية لا يمكن مسُّها بأي حالٍ وفق مبادئ حكومة "الكاظمي"، وأنّ رصيدها في المشهد هو المواطن العراقي لا الكتلة السياسية.
ذلك كله يجعل من الحكومة العراقية الحالية كما لو كانت واقفة في معركة إثبات وجودٍ، تسير فيها بحزمٍ لفرض القانون ومفهوم الدولة، غير آبهةٍ بالضرائب التي تستوجبها هذه المعركة, ولكن المفارقة تكمن في أنه كلما تعقدت الأمور وزاد العابثون والمخربون تخريبا، زادت الحكومة هِمةً وتحدٍّ وزاد رصيدها عند المواطن العراقي المكافح من أجل عراقٍ يستحقه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة