لم تعد هناك أرض محرمة للقتل في العراق.
فكل شبر منه يشهد نزيف دماء الضحايا الذين لم يفعلوا أي شيء سوى المطالبة بحقوقهم، وفضح أساليب الفساد التي كرستها الحكومات المتعاقبة من بعد 2003، لتصبح قانونًا رسميًا، ولم يسلم من كاتمات الصوت وغيرها من الأسلحة أي شخص يخرج عن قطيع الفساد المتحكم.
الشهداء يتساقطون وفي كل مرة لا وجود لأي دليل على القاتل، وتختفي أدلة الجريمة حتى القضاء العراقي الذي يتفاخر به الفاسدون ويعدونه من منجزات الديمقراطية، كالمحكمة الاتحادية التي "لا تحمي أحدا".
لا تتوقف موجة الاغتيالات التي تطول ناشطين في الحراك الشعبي العراقي، إذ ما إن تجف دماء ضحية حتى تلتحق بها ضحية أخرى في ظل عجز الحكومة عن مواجهة السلاح المنفلت وتحجيم دور المليشيات الموالية لطهران التي باتت تهيمن على المشهد الأمني والسياسي بكامله وسط التحضيرات الباهتة للانتخابات المبكرة في أكتوبر المقبل.
تتم عملية الاغتيالات على مرأى ومسمع من القوات الأمنية، فهي غير قادرة على صدها أو إيقافها ولا تمتلك سوى الصمت، بل إن الاغتيالات تتم على بعد أمتار منهم دون أي ملاحقة حتى لو كانت إجرائية، لأنها تعلم أنها ستصطدم بقوة أكبر منها تتمثل في المليشيات التي لا يحكمها أي قانون سوى قانون السلاح والطائفية.
يبدو أن لا شيء قد تغير في عهد الكاظمي الذي بشر بوعود كثيرة، عن عهد عادل عبد المهدي الذي اغتيل فيه أكثر من 700 متظاهر سلمي.
أحزاب السلطة تمتلك وحدها السلاح والمال بمواجهة الناشطين الذين يصرون على المواجهة السلمية، بحيث أصبحوا صيدا سهلاً لكاتمات الصوت وغيرها من أسلحة القتل، وهم يعرفون أنهم يفلتون من العقاب، فمَن لا تقتله رصاصات المليشيات يتعرض للخطف والتعذيب والسجون السرية، بل أكثر من ذلك أن قوات الحشد الشعبي ذهبت بمركباتها ومدرعاتها وأسلحتها الفتاكة وحاصرت المنطقة الخضراء، مقر رئاسة الوزراء مؤخرا، وهددت رئيس الوزراء، لأن القوات الأمنية اعتقلت أحد قادتها المتهمين بقتل المتظاهرين السلميين. وهذا تحدٍّ سافر لهيبة الدولة التي يمثلها رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة.
يبدو أن مسلسل اغتيال الناشطين السلميين لا نهاية له، ولن يتوقف عند أفق معين أو تاريخ محدد، وهذا النزيف الدموي لا يتوقف إلا بانتهاء المليشيات الموالية لطهران والسيطرة على السلاح المنفلت. والعجيب في الأمر أن هذه المظاهرات لا تتعدى مطالبها سوى الإصلاح ومحاربة الفساد والسلاح المنفلت والطائفية المقيتة.
لم تتخذ الحكومة العراقية أي إجراءات حقيقية أو فعلية من أجل محاسبة القتلة، ما جعل قادة الحركة الاحتجاجية يفقدون الثقة بحكومته وأدى إلى مقاطعة النظام السياسي برمته، ورفع سقف المطالب إلى تغيير البنية السياسية من جذورها كما جاء في شعارات الثوار "شلع قلع" باللهجة العراقية، أي اقتلاع النظام من جذوره وعدم التصالح معه في الوقت الذي كانوا يسعون إلى خوض الانتخابات وأصبحوا الآن يطالبون بسحب الثقة من حكومة الكاظمي.
لا يزال شبح الاغتيالات والخطف والقتل يهيمن على صدور العراقيين رغم تغيير الحكومات ورغم جميع وعودها بوضع نهاية لهذا الكابوس. ولا يزال القتلة بلا عقاب أو محاسبة، وهي تتكرر وتستمر. ولا يمكن فصلها عن سياق انتفاضة تشرين التي زعزعت النظام القائم على الفساد والمُحاصصة الطائفية ضمن أجندات مرسومة مسبقا.
هذه المليشيات المرتبطة بإيران اختطفت ما تبقى من الدولة التي تأسست منذ عام 1921. وهي ممثلة في عدد من المليشيات المعروفة التي أصبحت قوية وعنيفة أكثر بعد هزيمة "داعش" مثل كتائب حزب الله، والحشد الشعبي، وعصائب أهل الحق وغيرها التي فاق عددها 100 تنظيم.
إن الجناة معروفون، ولكن لا أحد يستطيع أن يتهمهم أو يحاسبهم. منذ العهد الملكي وحتى سقوط نظام البعث كانت الاغتيالات تحدث بتوقيع السلطة، أما اليوم فهي بتوقيع المليشيات والسلاح المنفلت وتواطؤ القوات الأمنية. ولا يتردد المجرمون بالسير في جنازات القتلى في ظل انعدام القوانين الحقيقية التي نص عليها الدستور الملغوم أصلاً منذ إنشائه. ولا يمتلك القتلة سوى اتهام المتظاهرين السلميين بأنهم "عملاء لأمريكا"!
سوف تنتهي ولاية الكاظمي في أكتوبر المقبل، ومصير الحكم سيكون في يد الأحزاب المهيمنة، وآنذاك ستنتهي حتى إدانة هذه الاغتيالات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة