السياسة الخارجية التركية والرهانات الخاسرة!
ربما لم تواجه تركيا هذا الكم الهائل من الأزمات في سياستها الخارجية مقارنة بأي مرحلة مضت في عمر الدولة التركية
تقوم السياسة الخارجية للدول على المصالح والعلاقات الدولية، لكن تبدو تركيا حالة مغايرة، حيث تقوم سياستها الخارجية على مجموعة من المحددات والأبعاد والعوامل التي راهنت عليها تركيا لتحقيق دور إقليمي في قيادة المنطقة، وقد بدا هذا الأمر واضحا في السنوات الأخيرة، في تعامل أنقرة مع أزمات الإقليم، إضافة إلى مرونة السياسة التركية وقدرتها على إعادة إنتاج مواقف مضادة تجاه أحداث المنطقة.
وتراجعت مناعة السياسة الخارجية التركية على خلفية الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي شهدتها أنقرة في أعقاب انتصار المعارضة في الانتخابات المحلية التي جرت في 31 مارس الماضي، واستمرار تدهور قيمة الليرة، والتي تزامنت مع خسارة أنقرة جانبا معتبرا من أسواقها في المنطقة العربية، إضافة إلى تهديد واشنطن بفرض عقوبات واسعة على الاقتصاد التركي بعد إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S400 مع روسيا.
تعود انتكاسة تركيا خارجياً بصفة أساسية إلى عدد من العوامل، أهمها استمرار الانخراط التركي سلباً في أزمات الإقليم، إلى جانب مواصلة تحالفات براجماتية وأيديولوجية مع دول الإقليم المنبوذة -إيران وقطر-، فضلاً عن توتر العلاقة مع القوى الكبرى، خاصة واشنطن التي عرقلت خطط تركيا للقضاء على الأكراد في الشمال السوري، وكذلك الاتحاد الأوروبي، بفعل توصية برلمانه في مارس الماضي بوقف مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد.
أسباب متعددة
ربما لم تواجه تركيا هذا الكم الهائل من الأزمات في سياستها الخارجية مقارنة بأي مرحلة مضت في عمر الدولة التركية، وهو ما يعود إلى أسباب عدة:
1- التدخل في شؤون الدول: حافظت تركيا إلى حد كبير على الآليات التي ظلت تستخدمها لتعزيز حضورها في المنطقة، حيث لم تتوان عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الإقليم، خاصة سوريا، إذ تسعى أنقرة إلى اقتطاع جزء من الأراضي السورية وضمها إليها، وكان بارزاً حديث وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قبل شهرين عن تبعية عفرين للأراضي التركية، وتأكيده على أن تركيا لم تخسر عفرين في الحرب العالمية الأولى وأنها ضمن حدودها، لكنها ظُلمت في التنازل عنها بموجب اتفاقية لوزان عام 1923، وتقوم تركيا منذ سيطرتها على عفرين في يناير 2018 بعملية ممنهجة لتغيير البنية الديمغرافية لمدينة عفرين السورية، وإحلال عناصر مرتبطة بتركيا في هذه المناطق.
2- تكريس البعد الأيديولوجي: ظلت السياسة الخارجية التركية تتخلى عن اعتبارات المصلحة مع بعض دول الإقليم لصالح البُعد الأيديولوجي الذي تجلى في استمرار دعم الحركات الإرهابية، لا سيما في مصراتة الليبية، وحركة النهضة في تونس، إضافة إلى استضافة عناصر تنظيم الإخوان الهاربين من مصر.
3- دعم الروابط مع الفاعلين من غير الدول: في سعيها لتحقيق أهدافها التوسعية في المنطقة، اتجهت أنقرة إلى تأسيس علاقات مع الفاعلين من غير الدول، أو دعم بعض التنظيمات المسلحة، على نحو يبدو جليا في سوريا ولبنان واليمن والعراق وليبيا.
4- التحالف مع دول الإقليم المارقة: ظلت تركيا تحافظ على تحالفاتها مع إيران وقطر من خلال تعزيز مستوى التنسيق الأمني والسياسي معهما، وبدا ذلك في استمرار الدعم التركي لقطر في مواجهة القرارات التي اتخذتها (السعودية - الإمارات - البحرين - مصر)، وهي الدول الأربعة الداعية لمكافحة الإرهاب والداعمة للاستقرار في 5 يونيو 2017، في المقابل قدمت تركيا دعماً لإيران بمعارضة خطوة تصنيف "الباسدران" منظمة إرهابية في أبريل 2019 من قبل الولايات المتحدة، كما جددت في أبريل الجاري سعيها لمساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات الأمريكية، عبر تأسيس آليات جديدة للتجارة مع إيران، مماثلة لنظام أقامته دول أوروبية، لتفادي العقوبات التي أعادت واشنطن فرضها على صادرات النفط الإيرانية في عام 2018.
5- مواقف متناقضة: تبنت أنقرة، في أحيان عديدة، مواقف متناقضة للخروج بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية، إلا أنها في نهاية المطاف خسرت مصداقيتها، وقد انعكس ذلك في الدعم التركي لحكومة السراج ومليشيات طرابلس في مواجهة عملية الفتح المبين الذي أطلقها الجيش الليبي في أبريل 2019 لتحرير طرابلس، كما تبارت حكومة العدالة والتنمية في الدفاع عن الجولان دون أن تحرك ساكنا تجاه إسرائيل، وعلى جانب آخر اتجهت إلى دعم نظام البشير، وغض الطرف عن انتهاكات نظامه، كما تحدثت على استحياء عن دور الجيش السوداني الذي استجاب لضغوطات الشارع وعزل البشير.
التأييد الكبير الذي ظلَّ يجده النظام السوداني من الرئيس التركي لا يعكس فقط ازدواجية المعايير لدى أردوغان، بل يؤكد أن أحاديثه المتكررة عن الديمقراطية وعلمانية الحكم ليست سوى شعارات مرحلية تكتيكية لا علاقة لها بالمواقف المبدئية.
6- خيارات متناقضة: لم تقتصر السياسة الخارجية التركية على تبني مواقف متناقضة تجاه القضايا الخارجية، وإنما سعت إلى تبني خيارات متناقضة للخروج بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية، إلا أنها واجهت انتكاسة كبيرة، وقد ظهر ذلك في محاولاتها استخدام صفقتها مع روسيا لشراء منظومة صواريخ s400، لممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية لحسم الملفات الشائكة بينهما، وفي الصدارة منها إنهاء دعم واشنطن للمليشيات الكردية وتسليم فتح الله غولن، إضافة إلى تسليم أنقرة مقاتلات f35.
غير أن هذه السياسة انعكست سلباً على موقع تركيا خارجياً، ففي الوقت الذي أعلنت أنها لن تتراجع عن صفقة s400 مع موسكو ذهبت سريعاً نحو فتح قنوات حوار مع واشنطن، وإعلان قبولها شراء صفقة "باتريوت" إلا أن واشنطن اعتمدت لغة التصعيد ضد أنقرة، حيث طالب بعض المشرعين بالكونجرس بوقف صفقة تسليم تركيا مقاتلات "إف 35" ومنعها من المطالبة بالتعويض، كما دعا بعض النواب الأمريكيين إلى تطبيق قانون "كاتسا" الخاص بمعاقبة أعداء أمريكا على تركيا.
في المقابل، وعلى ضوء محاولات أنقرة سياسة العزف على كل الأوتار، أبدت موسكو مواقف حذرة تجاه الصفقات التي يمكن أن تبرمها مع أنقرة خلال المرحلة المقبلة.
خسائر وانتكاسة
يُمكن القول إن رهانات السياسة الخارجية التركية كانت أقرب إلى الخيارات المتعجلة والأوهام الأيديولوجية والسياسية؛ إذ إن نظرة واحدة إلى ما آلت إليه خيارات ومنطلقات تركيا خارجياً تكشف عن تراجع مناعة هذه السياسة، بل الأخطر انتقال تداعيات هذه السياسة إلى الداخل التركي على شكل تهديد لأمنها القومي وقدرتها الاقتصادية.
في هذا السياق، فإن القراءة الدقيقة لمآلات هذه السياسة تكشف عن عدة نتائج على النحو التالي:
- تراجع الصورة الذهنية وافتقاد المصداقية في المنطقة العربية، وكشف عن ذلك مؤشرات عدة أن توجه قطاعات واسعة من دول الإقليم نحو معاقبة تركيا بسبب السياسات الخاطئة لحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، فرغم التسهيلات الممنوحة للمستثمرين الأجانب أقدم عدد كبير من السعوديين والخليجيين منذ مطلع عام 2019 على سحب استثماراتهم العقارية من تركيا.
وشهدت السوق العقارية التركية على خلفية هذه القرارات تراجعاً كبيراً، يقدر بـ46% عما كانت عليه العام الماضي، وأدى "خروج المستثمرين السعوديين بشكل خاص والخليجيين بشكل عام من القطاع العقاري التركي عبر تسييل استثماراتهم، واتجاههم إلى أسواق في دول أخرى، في الإطاحة بالقطاع العقاري، إضافة إلى إلغاء أو تجميد عشرات المشروعات الإنشائية في الأشهر الأخيرة، بينما تكافح عشرات الشركات من أجل دفع ديونها بالعملات الأجنبية بعد التراجع الكبير في سعر صرف العملة المحلية. ب: خسارة تركيا مصداقيتها في الشارع العربي بفعل مواقفها اللفظية فقط تجاه القضايا العربية، فعلى سبيل المثال شكّلت قضية الجولان بعد الاعتراف الأمريكي بالسيادة الإسرائيلية عليها في 25 مارس 2019، إضافة إلى جدل بشأن احتمال توجه أمريكي بالموافقة على ضم الضفة الغربية لإسرائيل، مناسبة للسياسة التركية في رفع سقف الخطاب الإعلامي والسياسي.
وأعلن الرئيس أردوغان أمام اجتماع منظمة التعاون الإسلامي الذي عُقد في تركيا في مارس 2019، بأن بلاده "لن تسمح على الإطلاق بشرعنة احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان أو الضفة الغربية".
وإذا كان مثل هذا الخطاب الشعبي يلقى ترحيباً، إلا أن ممارسة مثل هذا الخطاب في السياسة دون خطوات عملية وإجراءات حقيقية أدى إلى افتقاد السياسة التركية المزيد من مصداقيتها في الشارع العربي، خاصة أن تركيا اعتمدت مثل هذه السياسة طوال السنوات الماضية دون اتخاذ خطوات فاعلة، وكشف التوجه التركي بشأن الجولان والقضية الفلسطينية أن السياسة التركية تبحث عن مداخل للدور والنفوذ أكثر من الموقف الأخلاقي والسياسي الذي أعلنته عند الحديث عن قضية الجولان والضفة الغربية، وبدا ذلك في حرص أنقرة على توثيق العلاقة مع إسرائيل عبر مداخل عدة، في الصدارة منها التعاون الاقتصادي، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 4,5 مليار دولار بنهاية عام 2018.
ولذلك كان طبيعياً، رفض الدول العربية المشاركة في منتدى التعاون العربي الروسي الذي عُقد في موسكو في 16 أبريل 2019، على ألا يأتي البيان على ذكر دور تركيا وإيران في التسوية السورية.
- تدهور علاقات تركيا مع محيطها الدولي، حيث تبدو العلاقات التركية-الأمريكية في أسوأ حالاتها، وعلى غرار الولايات المتحدة فإن علاقة تركيا مع أوروبا سلبية للغاية لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بمشكلات انضمامها للاتحاد الأوروبي، والانتقادات الأوروبية لطريقة تعامل أردوغان مع المعارضة في الداخل، كما دخل المناخ مرحلة الشحن مع عدد واسع من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، فالأولى أعلنت مؤخراً 24 أبريل من كل عام يوما وطنيا لتخليد ذكرى المذابح التي قام بها الأتراك خلال الحقبة العثمانية ضد الأرمن، كما رفضت استقبال أئمة أتراك للعمل في مساجدها، ومن جهتها سعت ألمانيا للحد من نفوذ الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية "ديتيب"، الذي يشرف على نحو 900 مسجد في أوروبا.
- خسارة النفوذ الإقليمي: أدت تدخلات تركيا في شؤون دول الإقليم إلى خسارتها جانبا معتبرا من نفوذها في الإقليم، وزادت هذه الخسارة بعد عزل حليفها الأيديولوجي عمر البشير في السودان الذي كانت تعوّل عليه في تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية التي تعد بالنسبة لها منطقة نفوذ، وتجدر الإشارة إلى أن تركيا كانت ترى في نظام البشير ساحة مناسبة لخوض مغامرات سياسية وعسكرية، وتعزيز مكانتها الإقليمية من خلال تقوية وجودها العسكري في جزيرة سواكن السودانية التي شكّلت مطمعاً لها، سعت من خلاله إلى استعادة ما وصفته بإرث الإمبراطورية العثمانية، لتؤمّن موطئ قدم لها على البحر الأحمر، كما عمل أردوغان بتصميم كبير على تأسيس منطلق لبلاده على البحر الأحمر في محاولة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وقد افتتحت تركيا قاعدة عسكرية في الصومال في أكتوبر 2017، بهدف تدريب الجيش الصومالي، قبل عام من تأسيس قاعدة مماثلة في قطر.
- انتكاسة اقتصادية: أثرت الخلافات السياسية والدبلوماسية لتركيا مع العالم الخارجي على مصالحها التجارية والاقتصادية، وعرقلت جهودها للمضي قدما بشكل أسرع، إضافة إلى تنامى دعوات دولية وإقليمية لمقاطعة السياحة التركية التي تعتبر ركيزة مهمة للاقتصاد التركي، وهو ما ترتب عليه زيادة عجز الميزانية إلى 4,24 مليار دولار بنهاية مارس 2019، كما شهد معدل النمو الاقتصادي التركي تدهوراً ملحوظاً ليصل إلى 2,6%، مقابل 7,4% في عام 2017، وهو ما ترتب عليه دخول الاقتصاد مرحلة الركود للمرة الأولى منذ 10 سنوات.
- تشويه الصورة: أدت توجهات السياسة التركية المتناقضة والمستفزة أحياناً إلى تراجع صورتها الذهنية في الوعي الجمعي العالمي، بفعل توجهها نحو بناء روابط وعلاقات مع الكيانات الراديكالية المتشددة، وفضحت تقارير تورط تركيا بدعم تنظيم داعش، سواء من خلال توفير ممرات آمنة لعناصره للدخول لسوريا والعراق، أو من خلال شراء النفط منه ودعمه اقتصادياً، أو عبر دعمها جماعات إسلامية متشددة في إدلب، وفي مقدمتها جبهة النصرة التي غيرت اسمها إلى هيئة تحرير الشام، والتي أعلنت مبايعتها للقاعدة.
على ضوء ما سبق، يمكن القول في النهاية إن المعطيات السلبية التي تنتجها تطورات السياسة الخارجية التركية باتت تفرض خيارات محدودة على تركيا، لا سيما أن رهانات تركيا في جانب معتبر من سياستها الخارجية كشفت عن عدم فهم دقيق، سواء لطبيعة قضايا وأزمات المنطقة وتعقيداتها، أو في علاقتها مع القوى الكبرى، وهو ما ألحق خسارة بموقع وموضع تركيا خارجياً، ووضعها في مأزق شديد مع نفسها والآخرين دون أن تعرف كيف ستنجو منه.
aXA6IDMuMTQ3LjUxLjc1IA== جزيرة ام اند امز