تركيا ومأزق "S400".. خيارات محدودة
في ظل إصرار أنقرة على استيراد منظومة الدفاع الصاروخية S400 ورفض واشنطن الصفقة فالأرجح أن أنقرة قد تتعرض لخسائر وعقوبات أمريكية متعددة.
ارتفع مؤشر التوتر في العلاقات الأمريكية التركية في الوقت الراهن، وهو الأسوأ في العلاقات بين البلدين منذ عام 2016، عندما رفضت واشنطن طلبا تركيا بتسليم فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب في صيف 2016، إضافة إلى مشكلات إقليمية متراكمة.
وتشهد العلاقة الحالية بين البلدين تراجعاً خطيراً، ربما يكون الأول من نوعه في مسار العلاقة بينهما، لا سيما مع إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على المضي قدماً في شراء منظومة الدفاع الصاروخية S400 الروسية، وهو ما ترفضه إدارة الرئيس ترامب بشدة، وتعده إخلالا بالسياسة الدفاعية لحلف الناتو، وتهديدا غير مباشر للأمن القومي الأمريكي، وهو ما ينذر بأزمة خطيرة بينهما، ربما تؤدي إلى عواقب غير محسوبة في المستقبل القريب.
يحدث التوتر في العلاقات بين البلدين، رغم اللقاءات الثنائية التي جمعت أردوغان وترامب على هامش لقاءات دولية في الأرجنتين وباريس ونيويورك في الشهور الماضية، ورغم المشاعر الإيجابية التي عبر عنها الرئيس الأمريكي في مناسبات عدة تجاه تركيا، إلا أن ثمة أسبابا عميقة للصراع بين البلدين، تتصدرها قضية S400.
كانت تركيا، وهي شريكة في مشروع مقاتلات الجيل الخامس الأمريكية F35 منذ عام 2002، قررت في ديسمبر/كانون الأول من عام 2017 شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S400، ومع اقتراب الموعد المعلن لتسليم المنظومة الروسية في يوليو/تموز المقبل تزداد تحذيرات المسؤولين الأمريكيين لتركيا وتشتد حدتها.
وثمة توافق في الرؤى بشكل كامل بين إدارة ترامب من جهة، والكونجرس والبنتاجون من جهة أخرى، بخصوص صواريخ S400 في سابقة هي الأولى من نوعها، حيث ترى مؤسسات الحكم في واشنطن أن إصرار تركيا على تركيب منظومة صواريخ S400 هو مؤشر على استمرار أنقرة في التوجه شرقاً، والابتعاد عن حلف "الناتو" من جهة، والإضرار فنيا ببرنامج إنتاج مقاتلات f35 الذي تشارك فيه تركيا، إذ تخشى واشنطن من تسريب التفاصيل الفنية لإنتاج الطائرة F35 إلى روسيا على نحو يفقدها ميزاتها النسبية.
ويزداد الرفض الأمريكي لتسليم تركيا S400 في ظل اتساع نطاق الخلافات بين موسكو وواشنطن، على خلفية اتهام الأخيرة لموسكو بخرق اتفاقية الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت3"، و"اتفاقية الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى"، ناهيك بالتباين في التعامل مع بعض الملفات الأخرى، في الصدارة منها الخلاف بشأن إدارة الأزمة السورية، بالإضافة إلى قلق واشنطن مما تعده انتهاكا روسيا لسيادة دول غربية، وتطبيق أساليب عدائية ضد الدول الأوروبية، وهو ما ينقل التوتر في العلاقات الثنائية الأمريكية-التركية إلى مستوى آخر أكثر تعقيدا يتعلق بالسياسات الدفاعية المتعارضة للأطراف المختلفة.
لذا فمن المتوقع أن تشهد العلاقات التركية الأمريكية تأزماً كبيراً، ليس فقط فيما يخص عدم تسليم طائرات F35 إلى تركيا، ولكن أيضا في العديد من مجالات الدفاع الأخرى، وقد يمتد التأزم ليطال العلاقات السياسية والاقتصادية كذلك.
ملامح التوتر
أثار توقيع تركيا مع روسيا اتفاقا في نهاية عام 2017 بخصوص إمداد أنقرة بصواريخ أرض-جو روسية من الطراز S400، قيمته تقدر بنحو 2,5 مليار دولار، قلقا في الغرب؛ لأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، ولأنه لا يمكن دمج النظام الصاروخي في الهيكل العسكري للحلف، فضلا عن خشية الولايات المتحدة من أن تُستخدم تكنولوجيا بطاريات S400 لجمع بيانات حول طائرات الناتو العسكرية، وأن تصل هذه المعلومات إلى روسيا.
وأعلنت واشنطن بأنها ستفرض عقوبات على تركيا إذا مضت قدماً في إتمام S400 روسية الصنع، مهددة بتصعيد مكثف لاضطرابات الأسواق المالية في تركيا، التي لا تزال متأثرة سلبياً على خلفية المواجهة الدبلوماسية التي حدثت في العام الماضي.
ووصل التوتر ذروته مع فشل المفاوضات التي أجريت بين البلدين بعد انتهاء مهلة حددتها واشنطن لتلقي رد من تركيا في 18 فبراير/شباط الماضي، تتضمن إبرام صفقة موازية تتخلى بموجبها أنقرة عن منظومة الدفاع الروسية S400 مقابل المضي قدمًا في تنفيذ التعاقد الخاص بمنظومة صواريخ "باتريوت" مخفضة السعر، ولم تفلح المبررات التي تبناها كل طرف في إقناع الآخر بتغيير موقفه.
ومع تأكيد أردوغان أن بلاده ماضية في شراء أنظمة S400، إضافة إلى تصريحات المسؤولين الأتراك التي تؤكد أن "الحصول على المنظومة ضرورة وليس خيارًا" على حد قول وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، هددت واشنطن بسحب عرض بيع صواريخ باتريوت التي تصنِّعها شركة رايثيون لأنقرة، بنحو 3,5 مليار دولار، ناهيك بتعليق تسليم أنقرة أسطول المقاتلات f35 المكون من 100 طائرة، الأمر الذي يشكل خسارة فادحة يصعب تعويضها، خاصة مع إضافة منظومة "باتريوت" إليها.
لكن التطور الأبرز في إجراءات واشنطن العقابية ضد تركيا يمثل في مشروع القانون الذي قدمه في 29 مارس/آذار 2019 أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بهدف منع بيع المقاتلات الهجومية من طراز F35 من إنتاج شركة لوكهيد مارتن إلى تركيا رداً على الصفقة الروسية المخطط لها، على اعتبار أنها تعد "انتهاكاً للقانون الدولي".
عقوبات وخسائر
في ظل إصرار أنقرة على استيراد منظومة الدفاع الصاروخية S400، ورفض واشنطن الصفقة، فالأرجح أن أنقرة قد تتعرض لخسائر وعقوبات أمريكية متعددة، في الصدارة منها خسارة مالية معتبرة لقطاع الصناعة العسكرية التركية المساهمة في مشروع إنتاج مقاتلات F35، وتقدر بنحو 12 مليار دولار، إضافة إلى أن هناك نحو 10 شركات تركية ستتضرر نتيجة سحب عقود الصيانة الخاصة بالمقاتلة، كما أن تركيا لن تستطيع تعويض المقاتلة من خلال بديل آخر.
في المقابل، فإن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى معاقبة تركيا عبر تفعيل قانون مكافحة أعداء أمريكا "كاتسا"، لا سيما أن واشنطن تعتبر S400 مشكلة أمنية بالنسبة إليها ولحلف الناتو.
خلف ما سبق، فإن واشنطن اتجهت إلى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا بشكل غير مباشر، وكان بارزاً، هنا، قرار واشنطن في مارس/آذار الماضي بوقف امتيازات تجارية بقيمة 1,7 مليار دولار في إطار نظام "الأفضليات" التجاري، الذي يسمح بإعفاء تركيا من الرسوم الجمركية فيما يتعلق بنحو ألفي منتج من المنتجات الصناعية، والمنسوجات الواردة إلى الولايات المتحدة.
وتتزامن الخطوة الأمريكية مع تراجع لا تخطئه عين للاقتصاد التركي، إذ وصل معدل التضخم لنحو 20%، بينما تجاوز معدل البطالة حاجز الـ13% إضافة إلى انهيار سعر الليرة، وفشل السياسات النقدية في التحايل على الأزمة الراهنة.
والأرجح أن قرار واشنطن حمل في جوهره رسالة سياسية إلى أنقرة، مفادها بأن الولايات المتحدة لديها الكثير من الأوراق بمتناول يدها، وبإمكانها أن تستخدمها ضد تركيا "في الوقت المناسب". كما يحمل القرار في طياته مؤشراً على بدء مرحلة جديدة من تدهور العلاقات السياسية بين البلدين أكثر من كونه مؤشراً اقتصادياً.
التعقيدات الراهنة في الأزمة التركية-الأمريكية قد تتجاوز الخسائر الاقتصادية، وتمتد إلى الخسائر والمميزات العسكرية الدفاعية واللوجستية التي تتمتع بها أنقرة، من بينها البحث عن مقر مركزي جديد لصيانة المقاتلة f35، بعد أن كان من المقرر أن تكون تركيا هي مركز صيانة المقاتلة الرئيسي. إلى جانب أن الولايات المتحدة تفكر جدياً في نقل قاعدة أنجرليك الجوية إلى خارج تركيا. وإذا كانت قاعدة أنجيرليك التركية تشكل مركزًا حيويًا للتحركات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، فإنها في المقابل تمنح أنقرة ميزات عسكرية ولوجيستية في محيطها الإقليمي.
على صعيد ذي شأن، تتسع الهوة بين تركيا وحلف الناتو، وهي التي تتعرض لهزة عميقة منذ توقيع أنقرة صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S400 مع موسكو، ويعتبر الناتو أن شراء هذه الصواريخ سيحرم أنقرة من إمكانية الاندماج في منظومة الحلف الموحدة للدفاع الجوي.
تركيا.. خيارات محدود
تمتلك تركيا في صراعها مع الولايات المتحدة أدوات مباشرة محدودة بالمقارنة مع الأدوات الأمريكية، ويتمثل أول الخيارات التركية في إمكانية اللجوء إلى السبل القانونية للحصول على مقاتلات f35، خاصة أنها استثمرت نحو مليار دولار في برنامج إنتاج المقاتلة، وبالتالي فإنّ أي قرار أمريكي يمنع وصول المقاتلات سيمثّل خرقا للعقد، غير أن واشنطن أبدت استعدادها لتعويض أنقرة ماديا.
ويرتبط الخيار الثاني بمراهنة تركيا على الحوار لاحتواء الأزمة، وبدا ذلك في إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، في 15 مارس/آذار 2019، أن هناك محاولة تركية للبحث عن طرق فنية للجمع بين المنظومة والمقاتلة، وبالتالي توفير مسعى لتقديم ضمانات تركية لاحتواء المخاوف الأمريكية من تسرب المعلومات الفنية الخاصة بالمقاتلة، وهو أمر وإن كان مرفوضًا من جانب واشنطن إلا أنه يكشف عن سعى أنقرة لتهدئة التوتر مع واشنطن، وتجنب عقوبات ستكون أكثر إيلاماً على أعصاب تركيا. كما قد تلجأ الحكومة التركية إلى توطيد العلاقة مع روسيا، وتعويض المقاتلة f35 بالمقاتلة سوخوي 57 الروسية، رغم أنها تعي أن مميزاتها القتالية أقل من نظيرتها الأمريكية التي لديها قدرة فائقة على التخفي من أنظمة الرادار.
إجمالا، يمكن القول، إنه مع قرب تسلم تركيا الدفعة الأولى من منظومة الصواريخ S400 في يوليو/تموز المقبل، فإن ذلك يمثل محفزاً للإدارة الأمريكية والكونجرس والبنتاجون لفرض مزيد من العقوبات على تركيا التي أصبحت علاقتها مع واشنطن على المحك.