تعمل أنقرة ليل نهار على تحويل المناطق التي تحتلها شمال سوريا إلى ولايات تركية.
لا يتعلق الأمر فقط بحشد الجنود والآليات والأسلحة في تلك المناطق، وإنما بفرض الهيمنة التركية على السكان في اللغة والتجارة والشرطة والمدارس والجامعات والمؤسسات هناك.
مرسوم رجب طيب أردوغان القاضي بافتتاح كلية للطب ومعهد عالٍ للعلوم الصحية في بلدة الراعي بريف حلب يقول ذلك صراحة، وهو ليس أول خطوة لتتريك التعليم العالي في مناطق السيطرة "التركية". لقد سبق ذلك مرسوم لافتتاح ثلاث كليات تابعة لجامعة غازي عنتاب في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019؛ كلية للعلوم الإسلامية في أعزاز، وثانية للتربية في عفرين، وثالثة للاقتصاد وإدارة الأعمال في الباب.
بين المرسومين وقبلهما حتى، كان التتريك على مستويات ابتدائية وإعدادية وثانوية في التعليم، ومع كل خطوة لأنقرة نحو إنتاج أجيال ممن يتعلمون ويعملون بلغة الاحتلال، كان الجيش التركي والأجهزة الأمنية التركية يتعاونان لتغيير الواقع الديمغرافي في تلك المناطق التي يحتلها "أردوغان" شمال سوريا، إما بإقصاء وطرد المكون الكردي، وإما بتجنيس السكان العرب لتحويلهم إلى تركمان يدينون بالولاء لأردوغان.
واقع الحال يقول إن سكان المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي شمالاً، مجبرون على التعامل مع الدولة التركية، إلا أن السوريون في المناطق التي يسيطر عليها الأتراك يعيشون فوق أرض الوطن، ومعظمهم من السكان الأصليين، وحتى النازحين لا يشعرون بتغريبة اللاجئ في دول الجوار أو أي مكان حول العالم.
هذه الحقيقة لن تغير من طبيعة الدور التركي كمحتل، ولا تبرر لهيئات مايسمى "المعارضة السورية" قبول الوصاية التركية على قرارها، كما أنها لا تقدم مبرراً للجماعات المسلحة للقتال تحت العلم التركي على سبيل الارتزاق داخل الحدود أو خارجها.
إن ما يسمى الائتلاف السوري تديره المخابرات التركية وينفذ أجندة أنقرة الخارجية في الأزمة السورية، كما أن رئيس "الحكومة السورية المؤقتة" يتحدث التركية ويحلم بالعودة إلى أحضان "الإمبراطورية التركية"، كذلك لا يجرؤ فصيل ممن يطلق عليهم "فصائل المعارضة المسلحة" على رفض أوامر "الباب العالي" بإرسال المرتزقة للقتال في ليبيا أو التدخل في النزاع بإقليم ناجورنو كاراباخ.
على الرغم من ذلك، لا تكفي رغبة عملاء أنقرة في سوريا لتحويل مناطق الشمال إلى ولايات تركية، حتى ولو أرادوا ذلك بقوة. ولا يكفي أيضاً افتتاح أنقرة لجامعات ومعاهد أو تعميمها للغة أو العملة المحلية لبلوغ هذه الغاية. ثمة تفاهمات دولية لا بد أن تكتمل، واتفاقات بين الأطراف المعنية يجب أن تنجز لمنح أنقرة الوصاية الدائمة على هذه المناطق، أيا كان الحل النهائي للأزمة السورية.
ثمة سابقة في هذا الأمر وقعت عام 1939، عندما قدمت فرنسا لتركيا لواء الإسكندرون السوري كهدية مقابل عدم مشاركتها إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. قد تفيد هذه السابقة في إطار التعرف على التفاهمات التي قد تنشأ بين الدول الكبرى على حساب شعوب مستعمراتها السابقة، خاصة أن السياق الزمني الذي تتحرك فيه الأزمة السورية لا يوحي بأن المعنيين حول العالم يرغبون في إنهائها على المدى القصير، أو بالطريقة التي تضمن وحدة أراضيها كما يدعون في تصريحاتهم الإعلامية.
لقد سمحت واشنطن عدة مرات لـ"أردوغان" بالتوغل شمال سوريا خلال السنوات الست الماضية، كان آخرها عملية (نبع السلام) التي شنها الجيش التركي شرق الفرات عام 2019. تلك المناطق التي يعيش فيها الكرد حلفاء الأمريكيين في الحرب على الإرهاب، ولكن ذلك لم يمنع الدولة العضو في حلف الناتو من احتلال مزيد من المناطق السورية بذريعة صون الأمن القومي من إرهاب حزب العمال الكردستاني.
لم يمنع الروس والأوروبيون أيضاً الاحتلال التركي من التمدد شمال سوريا. مع انطلاق كل عملية للأتراك هناك كانوا يعبرون عن "قلقهم البالغ"، ثم يمضون لعقد التفاهمات والاتفاقات مع أنقرة وكأن شيئاً لم يكن. وباختصار، كل الأطراف الدولية المعنية بالأزمة منحت الأتراك الأمل في التوسع جنوباً، وهي مسؤولة أكثر من عملاء أنقرة في سوريا عن محاولات تحويل مناطق مثل عفرين وأعزاز وإدلب إلى ولايات تركية.
في المحصلة، محاولة تتريك مناطق الشمال بدأت منذ سنوات طويلة، وكلما امتد أمد الأزمة ازداد احتمال نجاح هذه المحاولة. عامل الزمن هو ما بات يخشى منه الآن، ومَن يماطل بحل الأزمة من الأطراف المحلية والدولية، يسعى بنفسه لإنجاح المحاولة التركية وتقسيم البلاد ككل، لأن اقتطاع حصة من الأرض السورية حلم يداعب مخيلة الأتراك والإيرانيين على السواء، كما أن أطرافاً محلية باتت تفضل العيش في كيان مستقل ضمن خريطة الدولة السورية ولكن خارج نفوذها وسيطرتها وسيادتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة