تبقى الإمارات العربية المتحدة دولة إسلامية تقدم نموذجاً رائقاً وراقياً للإسلام السمح والوسط والمعتدل.
أعلن الشيخ خليفة بن زايد عام 2019 عاما للتسامح في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليكون امتداداً لعام 2018 الذي خصص وكرس للمغفور له الشيخ زايد آل نهيان، والذي كانت حياته ضرباً من ضروب التسامح والتصالح مع الآخر ومع الذات.
استمد زايد الخير رحمه الله معنى ومبنى التسامح من عمق إيمانه الديني، وواقع وجدانه الصحراوي الشهم الأصيل، فعرف قدر هذه القيمة الكبرى واستبان له أن التسامح لا يستقيم وضعه بمجرد التغاضي الصرف، بل يجب أن يوسع في اتجاه احترام فاعل ومحبة أخوية، وهي عناصر لينة حاسمة لإقرار السلام في القرية الشاملة في القرن الحادي والعشرين، في عالم يسود فيه التسلط مع القدرة على إفناء الذات بالسلاح النووي، ويغلب فيه كثيرون من الخطباء البغض على المحبة، والفرقة على اللقاء، والخصام على السلام.
انفتاح الإمارات الخلاق ليس انفتاحاً اقتصادياً على نجاعة تجربتها في هذا السياق، ولا انفتاحاً معرفياً، رغم القمر الصناعي الذي شغلته الأيادي الإماراتية مؤخراً، انفتاحها الحقيقي تجلى ويتجلى في فتح الأبواب المغلقة بين الأديان والأعراق، وما أحوج العالم إلى مثل عليا في ميادين الدين والثقافة والرياضة والسياسةآلت الإمارات على نفسها أن تعزز دور التعايش والتلاقي الحضاري حول العالم، ولا يتوقف الأمر عند مجرد الإعلان النظري المحدود بفترة زمنية بعينها، ولكنه يسعى إلى جعل التسامح قيمة وعملاً مؤسسياً مستداماً من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات الهادفة الساعية إلى تعميق قيم التسامح والحوار، وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة بما تنعكس آثاره الإيجابية على المجتمع بصورة عامة.
المنطوق المتقدم يوضح لنا عمق الفارق بين الدولة الناجحة وبين الدول التي تعرف في عالم العلوم السياسية بـ"الدول الفاشلة"، فالأولى تقوم فيها الدولة بقوة القانون وحضورها الأدبي والأخلاقي معاً، بتيسير شؤون مواطنيها في دروب السلامة عبر منظومات قانونية، ولا تجعل من المثاليات نماذج حرة يختار المرء منها أو لا يختار حسب ما يتراءى له، لكنها تضع الثوابت بعزم وحزم، وقد سبق وفعلت الإمارات ذلك حين أصدر الشيخ خليفة قانون تجريم الكراهية ومكافحة التمييز، ولم يترك المشهد اختياريا لمن يشاء أن يحترم ومن يود أن يرفض.
تبقى الإمارات العربية المتحدة دولة إسلامية تقدم نموذجاً رائقاً وراقياً للإسلام السمح والوسط والمعتدل، للإسلام الذي يملأ قلوب مؤمنيه بالسلام والطمأنينة، ولهذا تجهد العالم من حولها في فهم أبعاد تجربتها الدينية والمدنية.
يفتتح الشيخ محمد بن زايد مسجد "مريم أم عيسى"، وفي الوقت ذاته تتيح الدولة موقعاً وموضعاً لبناء معبد هندوسي، في خطوة غير مسبوقة من التسامح، تتيح للهندي أن يؤدي صلاته وطقوسه، بالضبط مثلما يجد المسلم الذي يسعى إلى الهند مسجداً في بلاد الهندوس ليصلي فيه.
تدرك القيادة الإماراتية حق الإدراك أن الأديان في عمقها تحتوي على التسامح، وأن ما يصنع صيفاً أو شتاء هو الشدة أو اللين، وخير مثال على ذلك أنك تجد في قلب الفكر الإسلامي إمامين أحدهما يدعو للسماحة مثل الإمام مالك وآخر يمضي في طريق التشدد، مع الأخذ في عين الاعتبار أن كليهما ينطلق من النص الديني ذاته.
الذكاء الاجتماعي والإنساني للإمارات وحكامها يتجلى في أنها تدعو إلى التسامح الذي يساوي بين كل المذاهب والأديان، وهو تسامح في القانون لا في النفوس وحدها، وتؤمن أن الفضاء العمومي ملك لكل الناس، أما فضاء العبادة فمن حق المؤمنين وحدهم، وعليه تمضي في طريق القناعة والاقتناع بأن التسامح تربية وتنشئة على التعدد والتنوع في النفوس والوجود، أما الاختلاف فيضمنه القانون المدني، لذلك لن يكون العقل الذي يفرض قناعات بالقوة سوى عقل مناهض للحقيقة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير "فولتير" في كتابه الشهير "قول في التسامح".
لم تتلاعب الإمارات بالمقدرات الدينية والعقائدية، بل أدركت بالفعل أن الأديان جاءت من أجل سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة، وهنا يظهر سؤال خلاق: ما شرط السعادة في الحياة الآتية؟ والجواب حسب فولتير كذلك هو التسامح، إذ كيف يكون لنا ما يكفي من الدين لكي نكره بعضنا بعضاً ولا يكون لنا القليل منه لكي نتعلم الرحمة والتراحم، ولا نأخذ منه سوى ما يدعو إلى الكراهية والحقد، ولا نلتفت إلى ما فيه من مبادئ الحب والتعاون والرحمة.
عام التسامح لا يمضي في فضاءات بغير هدى، ولهذا جاء البيان يحمل أحجار زاوية ومحاور خمسة سوف تبقى مشاعل للإماراتيين وجيرانهم، وإن شئت الدقة لكل النفوس الماضية في طريق التسامح الإيجابي.
بداية وهذا هو الأهم تسعى الإمارات في هذا العام ليكون العمل متجذراً في نفوس الأجيال الشابة، والرهان دائماً عليهم في مستقبل البلاد، عبر الانفتاح على ثقافات الشعوب والأمم المغايرة، وقبول الآخر بأريحية حقيقية دون رياء أو كبرياء.
فيما الركيزة الثانية فتتصل بترسيخ مكانة الإمارات كعاصمة عالمية للتسامح من خلال مجموعة من المبادرات والمشاريع الكبرى كالمساهمات البحثية، والدراسات الاجتماعية والثقافية، المتخصصة في مجال التسامح وحوار الثقافات والحضارات.
أما حجر الزاوية الثالث في عام الإمارات 2019 فهو موصول بمجموعة من المبادرات المجتمعية الثقافية المختلفة ليكون التطبيق على الأرض قولاً وفعلاً مرة واحدة.
ورابعاً نجد الإمارات تجيد فن بناء الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، من خلال طرح تشريعات وسياسات تهدف إلى تأسيس قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي، بمعنى أن تكتسب القيم السامية حضوراً اعتبارياً، يبقى ناضراً ومضيئاً لدروب الآتين عبر الأجيال.
فيما المحور الخامس من محاور رؤية 2019 الإماراتية للتسامح فيسعى في طريق تعزيز خطاب التسامح، وتقبل الآخرين من خلال مسار صار يتحكم في عقول الناس، في حاضرات أيامنا، أي مسار الإعلام الهادف، وذلك من خلال طرح وبلورة عدة مبادرات إعلامية هادفة، ترسخ قيمة التسامح السامية في عقول السامعين والقارئين والمشاهدين، عوضاً عن خلق حزازات الصدور.
عام الإمارات للتسامح يملأ الفراغ الأخلاقي الذي هو تربة التطرف والإرهاب، فالتسامح صنو للإيمان بكرامة الإنسان، وبكائن أسمى ندعوه الإله عز وجل، ولا يمكن للعالم أن يدوم، إلا إذا اتسعت مساحة التسامح بين البشر، وكارثة البشرية في العقود الأخيرة أنها رغم توقها الشديد للمعنى والقيم، إلا أنها في زمن الشموليين والشعبويين فإن قسماً كبيراً من النفوس والقلوب بل العقول الطائشة تمضي في إثرها.
قيادة الإمارات دون تهوين أو تهويل باتت تمثل نخبة مسؤولة عالمياً تنتصب ضد النسبية الأخلاقية وتدعو إلى قدر أكبر من الاحترام والتسامح، هذا ما نجده في حديث الشيخ محمد بن راشد عن ضرورة إرساء قيم التسامح ونبذ التطرف والانفتاح على الثقافات والشعوب، لا كمبادرات فردية أو حكومية، بل كتوجه مجتمعي عام تنخرط فيه فئات المجتمع كافة، بما فيها القطاعان الحكومي والخاص.
بينما يجمل الشيخ محمد بن زايد دولة الإمارات في القول إنها عنوان التسامح والتعايش والانفتاح على الآخر، وله في الحق ألف حق حين يشير إلى أن المجتمعات التي تؤسس على قيم ومبادئ التسامح والمحبة والتعايش هي التي تستطيع تحقيق السلام والأمن والاستقرار والتنمية.
انفتاح الإمارات الخلاق ليس انفتاحا اقتصاديا على نجاعة تجربتها في هذا السياق، ولا انفتاحا معرفياً رغم القمر الصناعي الذي شغلته الأيادي الإماراتية مؤخراً، انفتاحها الحقيقي تجلى ويتجلى في فتح الأبواب المغلقة بين الأديان والأعراق، وما أحوج العالم إلى مثل عليا في ميادين الدين والثقافة والرياضة والسياسة.
كثيراً جداً ما سمعنا عن مخططات الشر، لكن مخططات الخير وإفشاء السلام وترسيخ التسامح لم نسمع عنها إلا من الإمارات، التي بدت وكأنها صاحبة ثورة تسامحية في سبيل العيش، ورائدة في مجال الأخلاقيات العالمية الجديدة، وشرائع السماحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة