تشكل «بونديالي»، المدينة الصغيرة في شمال غرب كوت ديفوار التي تبعد 7 ساعات بالسيارة عن العاصمة أبيدجان نموذجاً مثالياً لرؤية استثمارية تنموية فريدة.
ورغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 50 ألف نسمة، فإن دولة الإمارات وضعت فيها أحدث بصماتها في جهود التنمية الاقتصادية للقارة الأفريقية، تنفيذاً للرؤية الاستشرافية لقيادتنا الرشيدة وتوجيهاتها ببناء شراكات تنموية طويلة الأمد مع الدول والمناطق ذات آفاق النمو الواعدة بهدف تحقيق المصالح المشتركة.
تقع مدينة «بونديالي» على هضبة كبيرة، تحيط بها سهول شاسعة تنتشر فيها الأشجار والأراضي الخصبة المخصصة لزراعة محاصيل رئيسية مثل القطن والأرز، والكسافا (المنيهوت أو المان يوك) الذي يعد مصدراً أساسياً للغذاء بالنسبة لسكان أفريقيا.
في «بونديالي» الشهر الماضي، شاركت مع رئيس وزراء كوت ديفوار معالي روبرت بوغري مامبي في افتتاح أكبر مصنع لتجهيز «الكاجو» في البلاد والمملوك للشركة الإماراتية «بان أفريكان أجروكوموديتيز هولدينج ليمتد» المدرجة في سوق أبوظبي العالمي، والهادفة إلى الاستثمار والتوسع بالقطاع الزراعي في أفريقيا.وتصل طاقة المصنع إلى 100 طن متري يومياً من إنتاج «الكاجو» ثاني أهم منتج تصديري في كوت ديفوار. ويوفر المصنع أكثر من 4000 وظيفة مباشرة وغير مباشرة.
وبعد تشغيل المصنع بكامل طاقته، ستصبح الإمارات أكبر دولة في العالم توفر استثماراتها فرص عمل جديدة في كوت ديفوار، مواصِلةً تعزيز مكانتها العالمية كأكبر مستثمر أجنبي وأكبر مساهم في التنمية وخلق الوظائف بقارة أفريقيا من مصر شمالاً إلى جمهورية جنوب أفريقيا جنوباً، ومن موزمبيق وموريشيوس شرقاً إلى المملكة المغربية وكوت ديفوار غرباً، مروراً بمعظم دول القارة، مما يعكس التزام الإمارات بتعزيز التنوع الاقتصادي في أفريقيا.
وتنتهج دولة الإمارات استراتيجية طويلة الأمد في أفريقيا عبر بناء شراكات فعالة قادرة على تعزيز الفرص، ودعم التنويع الاقتصادي، وتحقيق النمو المستدام، والمساهمة في جهود التنمية الشاملة. ولتحقيق هذه الغاية، تستهدف الاستثمارات الإماراتية تعزيز القدرات التصديرية للصناعات الأساسية مثل الزراعة والتعدين والصناعة التحويلية، بالإضافة إلى تطوير قطاعات الخدمات مثل التمويل وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات اللوجستية.
وكمحصلة لهذا التوجه، بلغ إجمالي الاستثمارات الإماراتية في أفريقيا أكثر من 44.5 مليار دولار بحسب بيانات 2023، وهو رقم يُعتبر الأبرز عالمياً، حيث يُعد ضعف استثمارات الصين وسبعة أضعاف الاستثمارات الأمريكية في القارة، ما أتاح توفير أكثر من 18 ألف فرصة عمل مباشرة في مختلف القطاعات وعلى رأسها قطاعا الطاقة المتجددة والبنية التحتية.
وتواصل دولة الإمارات ريادة جهود الاستدامة حول العالم، عبر مشاريعها للطاقة المتجددة، حيث أبرمت «مصدر» إحدى شركات الطاقة المتجددة الأسرع نمواً في العالم اتفاقيات لإطلاق مشاريع جديدة مع ست دول أفريقية في إطار التزام دولة الإمارات بضخ 10 مليارات دولار لتوفير 10 غيغاواط من الطاقة النظيفة في القارة بحلول عام 2030.
وتساعد هذه المشاريع، التي جرى الاتفاق عليها خلال استضافة الدولة مؤتمر الأطراف COP28 نهاية عام 2023، على توفير الكهرباء لما يقرب من نصف سكان دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الذين يفتقرون حالياً إلى مصادر دائمة للطاقة.
وتشمل هذه الاتفاقيات مشاريع الطاقة الشمسية في أنغولا، والتعاون لتوسيع قدرة الطاقة الحرارية الأرضية في كينيا، وغيرها. وقبل أيام، أبرمت شركة «أميا باور» الإماراتية اتفاقية مع وزارة المالية الإثيوبية لبناء وتطوير وتشغيل مشروع «عائشة 1» لطاقة الرياح بتكلفة 620 مليون دولار، لتوفير الكهرباء لأكثر من 4 ملايين أسرة.
كما تركز الاستثمارات الإماراتية على قطاع الخدمات اللوجستية باعتباره عاملاً رئيسياً في إطلاق الإمكانات الاقتصادية الواعدة في أفريقيا، سواء من خلال التوسع في تصدير المنتجات الرئيسية، مما يُعزز القدرة التنافسية للمنتجات الأفريقية في الأسواق العالمية، أو عبر تعزيز قدرات القيمة المضافة لدول القارة عبر التصنيع والمعالجة والتجميع.
وفي هذا الإطار، تدير موانئ دبي العالمية «دي بي ورلد» حالياً 9 موانئ في أفريقيا، أحدثها ميناء «دار السلام» في تنزانيا باتفاقية امتياز مدتها 30 عاماً لتشغيل وتحديث الميناء الذي يعد ضمن الأكبر في شرق القارة. وفي عام 2022، استحوذت موانئ دبي العالمية أيضاً على شركة «إمبريال لوجستيكس» في جنوب أفريقيا مقابل 890 مليون دولار، وتعمل الشركة في 26 دولة في أفريقيا وأوروبا.
وفي العام نفسه، استكملت مجموعة موانئ أبوظبي بنجاح أول عملية استحواذ دولي لها، بشراء حصة أغلبية قدرها 70 % من شركتي «ترانسمار الدولية للنقل البحري» و«ترانسكارجو الدولية» بقيمة 140 مليون دولار. ويهدف الاستحواذ على الشركتين اللتين تتخذان من مصر مقراً لهما إلى توسيع أعمال المجموعة في منطقتي شمال أفريقيا والبحر الأحمر المهمتين.
ولا تقتصر الاستثمارات والمشاريع التنموية الإماراتية على مجالات الطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية فحسب، بل تمتد أيضاً إلى قطاعات حيوية أخرى مثل الزراعة، بما في ذلك زراعة الأرز والأفوكادو في أنغولا، وقطاع التطوير العقاري في مصر وجنوب أفريقيا.
وكذلك التعليم، ولا سيما من خلال مبادرة تدريب 5 ملايين مبرمج في إثيوبيا، ما يعكس التزام دولتنا بتحقيق التنمية الشاملة في القارة، كما أن «طيران الإمارات» تربط الدولة برحلات مباشرة مع 22 مدينة رئيسية في أفريقيا، ما يوفر آفاقاً واسعة لبناء المزيد من شبكات الأعمال وتحفيز الاستثمارات والسياحة.
قد ينظر البعض إلى هذه الاستثمارات على أنها عالية المخاطر. ولكن الأمر عكس ذلك تماماً. فقارة أفريقيا تعد واحدة من أهم مناطق النمو الاقتصادي المستقبلي حول العالم، وخصوصاً الدول الأفريقية ذات الرؤية المستقبلية التي تعمل على تطوير السياسات وبيئة الأعمال لتحفيز النمو المستدام.
وبحسب التوقعات سيصل عدد سكان القارة إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، مع طبقة متوسطة متنامية تنفق أكثر من 3 تريليونات دولار على السلع والخدمات بحلول عام 2030. وتمتلك أفريقيا ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وهي غنية بالمواد الخام والمعادن وأبرزها النحاس والليثيوم والكوبالت التي تعتبر ضرورية لتحقيق الأهداف العالمية في التحول إلى الطاقة النظيفة. ولكل هذه الأسباب يمكن القول إن الخطر الأكبر يكمن في عدم الاستثمار في أفريقيا بالقدر الكافي.
تدرك دولة الإمارات أهمية القارة الأفريقية كمركز واعد للازدهار الاقتصادي، لذا نواصل جهود توسيع شبكة شركائنا التجاريين والاستثماريين في القارة عبر برنامج اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة. وقبل أسابيع، شهد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وفخامة برافيند كومار جوجناوث، رئيس وزراء موريشيوس، مراسم توقيع أول اتفاقية تبرمها الإمارات مع دولة أفريقية، بهدف تحفيز التجارة البينية غير النفطية وتعزيز وصول تجارة الخدمات إلى الأسواق.
وخلق مسارات جديدة للاستثمارات المتبادلة، واستحداث منصة للتعاون بين الشركات الصغيرة والمتوسطة في الجانبين.وسبق ذلك إنجاز المحادثات الرامية للتوصل إلى اتفاقيتين مثيلتين مع كل من الكونغو برازافيل وكينيا لبناء شراكات واعدة في المجالات ذات الأولوية، وخصوصاً الطاقة والأمن الغذائي والتعدين وغيرها.
ومع استمرار توسع شبكة الشركاء التجاريين للدولة حول العالم، ستساعد هذه الاتفاقيات أيضاً دول أفريقيا على النفاذ للأسواق الدولية - عبر دولة الإمارات - بشكل أكثر كفاءة وفاعلية لزيادة قدراتها التصديرية، وبناء قدرات جديدة لرفع تنافسية منتجاتها من السلع والخدمات عالمياً.
ومع الحديث المتزايد عن تراجع العولمة، نعتقد أن أفريقيا ستكون مركزاً جديداً للنمو والابتكار. فهذه القارة الواعدة لا تستطيع فقط سد الفجوة بين التكتلات الاقتصادية الكبرى في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، بل وتبرز أيضاً كقوة رئيسية في المستقبل، بفضل «منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية»، وهي تكتل قوي نتوقع أن يكون له دور رئيسي في الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة. ولهذا فإن دولة الإمارات عازمة على المضي قدماً في شراكتها التنموية مع أفريقيا.
نقلاً عن صحيفة «البيان» الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة