في غضون أقل من عام استطاعت جائزة "المقال الإماراتي" أن تعلن نفسها، وتؤكد حضورها بين المبدعين من كتّاب المقال وكاتباته في دولة الامارات العربية المتحدة.
وسرعان ما تحولت الجائزة لعلامة بارزة ومحطة فارقة في المشهد الأدبي والثقافي الإماراتي الغني بالفعاليات والمبادرات. وقد انطلقت الجائزة انطلاقة قوية وواعدة تليق بكاتب المقال الوطني الذي يسهم في تشكيل الوعي العام من خلال الكلمة؛ فمنذ أن أعلن مجلس الأمناء ميلاد الجائزة في 16 يناير 2025، وحتى احتفالها البهي في مكتبة محمد بن راشد مساء يوم 26 مايو، بدا جليًّا أن الدولة تُقدم درسًا بليغًا في الوفاء للأدب والأديب، وتحديدًا لفن المقال الذي طالما كان صوت الضمير ومشعلًا من مشاعل التنوير.
وقد تدفّقت المشاركات كالسيل العرم لتبلغ 114 مقالة، خطّتها أقلام إماراتية تنبض بالوعي والانتماء والإخلاص للوطن. وقد غطت المقالات ستة فروع متنوعة للجائزة، تمس شتى مناحي الحياة، وتلامس هموم المواطن واهتماماته وقضاياه المعاصرة. وقد فاق هذا الحضور اللافت للنظر التوقعات، ولا سيّما أن الجائزة ناشئة ذات معايير دقيقة وغير مسبوقة، منها أن يعالج قضية إماراتية معاصرة، والإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي؛ ولذلك فإن الجائزة ليست مسابقة فحسب، بل اختبار لجدية الكتابة والكاتب الذي يسعى إلى التعبير بشفافية عن خواطره وأفكاره.
ولم يكن المقال الإماراتي يومًا غائبًا عن الحراك الثقافي؛ بل رافق نشأة الدولة ونهضتها منذ البدايات، وظهر مع بزوغ الصحافة في ثلاثينيات القرن الماضي على أيدي أوائل الرواد من حملة مشعل الكلمة وغيرهم من مؤثري ذاك الزمان. وازدهر في الستينيات مع تطور الحياة الثقافية والأدبية، واحتضنته المجلات التي كانت تصدرها الأندية الرياضية، ثم شهد قفزته الكبرى في السبعينيات، حين بزغت أسماء شابة آمنت بأن المقال ليس مجرد سطور تُكتب، بل رأي يُعتد به، ووطن يُكتب عنه وباسمه.
ومع تسارع الزمن، وتبدل الظروف، وتزايد التحديات في الداخل والخارج، خفت وهج المقال قليلًا في التسعينيات، ولكنه لم ينطفئ؛ إذ عاد المقال الى تألقه على أيدي جيل جديد من الكتّاب الذين واجهوا تحولات العصر، وعبّروا بثقة عن نجاحات وطنهم وسط عالم مضطرب.
وقد أثبت كُتاب المقال في دولة الإمارات أنهم ليسوا أصحاب رأي فحسب، بل حراس فكرة، ورواد فكر، وجنود حبر في معركة الهوية والتجديد والانتقال من الثقافة الشفهية التقليدية إلى الثقافة المكتوبة، ومن ثم إلى عصر الثقافة الرقمية المعاصرة؛ مع مواكبة مرحلة ثقافة الذكاء الاصطناعي بكل فرصه الإبداعية الواعدة. وقد جاءت الجائزة لا لتكافئهم فحسب، وإنما لتواكب هذا الحراك الثقافي الإماراتي المتجذر والمتجدد، ولتعيد للمقال الأدبي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والعلمي هيبته ومكانته، ولتحتفي بجيل جديد يكتب بحس وطني وروح إبداعية متألقة.
وقد تجسدت هذه السمات الإبداعية في المقالات التي نالت أعلى درجات التقدير من لجنة تحكيم الجائزة؛ ففي فرع المقال الاجتماعي أبدعت الكاتبة العنود المهيري في مقالها "شوكولاته دبي"، الذي ختمته بعبارة لاذعة وبديعة: "إذا صادفتم من يتهم دبي زورًا بأنها مدينة بلاستيكية، فليس أبلغ من أن تحشو فمه بشوكولاته دبي!". وفي فرع المقال الاقتصادي كتبت مريم البلوشي مقالتها "الاستدامة في قلب أجندة الإمارات" مؤكدة أن
"الإمارات، في أعوام قليلة، أصبحت لاعبًا رئيسيًّا في قضايا المناخ، وشريكًا يحظى بالاحترام على طاولة المفاوضات العالمية".
أما في فرع المقال السياسي، فقد تناول الدكتور سعيد علي حسن موضوع القوة الناعمة الإماراتية، مشددًا على أن "الإمارات تملك اليوم أقوى نفوذ عربي في هذا المجال، وهي من بين أبرز اللاعبين عالميًّا". وفي فرع المقال العلمي أبدعت شيخة الكعبي بمقالها "إعادة تشكيل المستقبل"؛ إذ ناقشت كيف يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تمكّن الأطفال المصابين بالتوحد من أن يصبحوا شركاء فاعلين في مستقبل الوطن.
وتألقت منى الحمودي في مقالها الفكري عندما وصفت المواطن الإماراتي بأنه "مواطن ديناميكي، لم يعد يتفاعل بردود أفعال فقط، بل أصبح صانعًا للقرار، مدفوعًا بالعلم والطموح". في حين اختارت الدكتورة بديعة الهاشمي الهوية الوطنية موضوعًا لمقالها الأدبي، وسلطت الضوء على كيفية تناول رواد الرواية الإماراتية هذه الهوية، بين ترسيخها، والكشف عن المخاوف التي تهددها.
وجاءت المقالات الفائزة مشبعة بالحس الوطني والجمال السردي، منطلقة من الواقع دون التخلي عن الحلم الإماراتي الذي أصبح يعانق الفضاء، ويقتحم عوالم الذكاء الاصطناعي بثقة وجدارة واقتدار، ليس وفق معايير عالمية، وإنما وفق أفضل المعايير الإماراتية في الجودة والتميز والريادة والتنافسية. ومع نجاح الدورة الأولى أعلن مجلس الأمناء مضاعفة قيمة جائزة المقال الإماراتي لكل فرع إلى 20 ألف درهم، بعد حصولها على دعم مالي سخي من رجل الأعمال خلف أحمد الحبتور، الذي تبرع بمليون درهم تكفي لتمويل فروع الجائزة خمس سنوات قابلة للتجديد.
ولأن طموح الجائزة يجسد طموح وطن لا يعرف التوقف، ويذهب إلى ما بعد المستحيل نفسه، قرر المجلس التوسع في ثلاثة فروع جديدة في الدورة المقبلة، وهي: المقال الفني، تقديرًا للمشهد الفني الإماراتي؛ ومقال الكاتب الواعد تحت 18 عامًا، تشجيعًا للمواهب الصاعدة؛ ومقال الكاتب المقيم في الإمارات؛ تكريمًا لدور المقيمين في إثراء المشروع النهضوي الإماراتي.
وقد تزامن يوم توزيع الجوائز، في 26 مايو 2025، مع يوم الكاتب الإماراتي الذي يحمل مشعل التنوير، ويعبر عن نبض الوطن. إن جائزة المقال الإماراتي لم تأتِ لتكرّم نصًّا مبدعًا فحسب، وإنما لتؤسس مرحلة جديدة من تطور أدب المقال، وتفتح آفاقًا جديدة أمام الأقلام الوطنية، وتجسّد طموح الدولة إلى أن يكون لها أدب مقال يليق بوطن لا يكفّ عن صناعة المستقبل، ويضم كوكبة من الكتاب والكاتبات الذين يحجزون مكانهم بين كبار كتاب المقال العرب، ولكن بنبض إماراتي بديع.
نقلا عن «منصة مفكرو الإمارات»
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة