لم يكن الشعر يومًا مجرّد كلمات موزونة وقوافٍ تُلقى على المسامع، بل كان ذاكرة وطن تُترجم في كلمات،
ومجلسًا يجمع بين الحكمة والصوت الإنساني بصدى يلامس الأرض ويعانق السماء.
كان النبض الذي سبق اللغة، ليُحفَظ ويرافق الذاكرة الجماعية - متجسّدًا في جغرافيا تُروى، وتضاريس تحكي قصصًا، ولهجة تنطق بتاريخ الأجداد.
ورغم أنني لم أكن متابعة مهووسة، إلا أنني ما زلت أتذكر تلك البرامج الشعرية التي كانت تُعرض على شاشات التلفاز، وتلك الأمسيات التي كان يترقّبها أفراد الأسرة، حين كانت الكلمة تلامس تكويننا، وتُشبهنا… وتُشبه المكان الذي نعيش فيه.
كنا نقدّم القهوة لأطفالنا، لعلها توقظ الفصاحة من مكمنها الأول. هكذا تربّينا على وقع الكلمة… لا على السبورة، بل في الذوق، في السمع، وفي الممارسات الحياتية.
ففي الشعر سُجّلت اللحظات الكبرى: الحنين، الرحيل، الغضب، الفخر، والحبّ. هو مرجع الهوية، والشاهد على الشعور الشعبي، والمرآة التي تعكس الوجدان.
أتساءل: لماذا اختفت مجالس الشعراء؟ وأين الأمسيات الشعرية؟
لماذا لم تعد الساحة الثقافية تتّسع للشاعر كما كانت من قبل؟
هل لأن المنصّات لم تَعُد ترحّب؟ أم لأن الشاشات لم تَعُد تمنحه الوقت؟
هل انسحب الشعر أمام هيمنة“الترند”؟ وتوارت المجالس خلف موجات الترفيه السريع وتفضيلات الخوارزميات؟
لكن الشعر لا يموت…
بل ينتظر أن نُعيد اكتشافه، وأن نمنحه السياق الذي يليق به.
فهو ركيزة أساسية في هذه المنطقة، وصوتٌ أصيل يمكنه أن يعيد التوازن والرقي وسط السطحية والضجيج.
ونحن لسنا متفرجين على التراث، ولسنا ورثةً صامتين.
نحن من يجب أن يتذكّر، ويحفظ، ويتعمّق.
نحن الذين وُلدنا من وقع القصيدة، وكبرنا على قافيةٍ حاكت خيوطًا تمتدّ من عروق الرمال إلى أمواج الخليج.
علينا ألا نكتفي بحفظ القصائد… بل أن نفهمها.
فهي من شكّلتنا قبل أن نُشكّلها.
علينا أن نتعمّق في مكوّناتها، في أسرارها، في صورها، في جِناسها، في سرّ إيقاعها، وأن نقرأ ما تقوله… وما لا تقوله.
لأن الشعر، كما النقوش الفرعونية، لا يصف فقط… بل يبني النفس، والمجتمع، والحضارة.
في كل بيت شعر هناك خريطة غير مرئية، تتّجه فيها الجهات الأربع نحو العادات، والهوية، والنبل الإنسانيّ بشقّيه الوجداني والفكري… والأرض.
علينا أن نحافظ على الشعر حيًّا، لا أن نسمح له أن يتحوّل إلى وثيقة جامدة تتوارثها الأجيال.
بل علينا أن نُبقيه نابضًا… ينساب بين الأجيال، كما يكتمل المعنى بين الشقّين الصدر والعجز. لأنه ليس فرعًا من الأدب… بل أصلٌ من أصول هذه المنطقة، ومن لا يقرأه، يقرأ التاريخ مبتورًا.
لعلني أُعاني من حنينٍ لا يشبه الحنين…
فكلما تذكّرتُ أن أمسيةً ما كانت قادرة أن تحوّل بيتًا شعريًّا إلى أغنية تحفظني، لا أن أحفظها.
أشتاق لسماع قصيدة تُشكّل جزءًا جديدًا من وجدي ووجداني.
فالقصيدة تعيد ترتيب كل ما تبعثر…
لكن،
أين هو الشاعر؟
أين هم الشعراء؟
وأين هي القصيدة؟
هل تاهت القصيدة؟ أم نحن من تهنا… في حضرة زمنٍ لا ينتظر؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة