تُعد قضية المرأة في المجتمعات التقليدية، كأفغانستان، محورًا هامًا للنقاشات المعاصرة. غالبًا ما يُختزل تفسير التحديات التي تواجه مشاركة المرأة في "الموروث الاجتماعي" وهو تبسيط لا يراعي الطبيعة المركبة للعوامل المؤثرة.
ففي السياق الأفغاني، تتشابك الأعراف الاجتماعية مع التوظيف الانتقائي للنصوص الدينية، والسلطة التي تفرض قيودًا على المرأة.
على الرغم من الأدوار الفاعلة التي لعبتها المرأة الأفغانية تاريخيًا في التعليم والأدب والسياسة، فقد تعرضت هذه الأدوار للإقصاء بسبب العوامل القبلية، التفسيرات الدينية المتشددة، والسياسات السلطوية. تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك الخطاب الاجتماعي والديني حول المرأة، من خلال استعراض مشاركتها التاريخية ومناقشة العوائق التي واجهتها.
كما تبرز الحاجة إلى اجتهاد ديني معاصر يوازن بين النصوص الشرعية والواقع، وتؤكد أهمية دعم الدول العربية والإسلامية للشعب الأفغاني للارتقاء بوضع المرأة برؤية تجمع بين الأصالة والمعاصرة
المرأة الأفغانية بين الموروث الاجتماعي وسجل المشاركة الفاعلة
تمثل قضية المرأة في المجتمعات التقليدية المجتمع الأفغاني، محورًا أساسيًا في النقاشات الفكرية والاجتماعية المعاصرة. وغالبًا ما يُختزل تفسير معوقات مشاركة المرأة في الحياة العامة ضمن إطار "الموروث الاجتماعي"، دون الالتفات إلى الطبيعة المركبة والمتشابكة للعوامل المؤثرة على مكانتها وأدوارها.
وعند التمعن في التاريخ الاجتماعي والثقافي لأفغانستان، يتضح أن المرأة الأفغانية لم تكن يومًا عنصرًا هامشيًا أو متلقيًا سلبيًا للتقاليد والأعراف، بل كان لها حضور فاعل ومثمر في مجالات متعددة.
فقد ساهمت في الدفاع عن الوطن، وبرزت في ساحة الأدب والشعر، والتعليم والصحة، وتقلدت مناصب قيادية سياسية واجتماعية في مراحل عديدة. وتدل شواهد التاريخ الأفغاني على نساء محاربات في وجه الاحتلال الأجنبي، وأخريات لعبن أدوارًا محورية في النضال الفكري والثقافي، فضلاً عن إسهاماتهن المتميزة في الحركة التعليمية والصحية، لا سيما خلال النصف الأول من القرن العشرين.
إن الموروث الاجتماعي في المجتمع الأفغاني، كما في سائر المجتمعات التقليدية، ليس بنيةً جامدة أو معيقة بطبيعتها، بل هو منظومة ثقافية قابلة للتطور، تواكب المتغيرات السياسية والاجتماعية.
وقد شهدت أفغانستان لحظات انفتاح اجتماعي بارزة، خصوصًا في الحواضر الكبرى، حيث ساهمت المرأة في الشأن العام إلى جانب الرجل. وفي المقابل، مرت البلاد بفترات انكفاء اجتماعي ارتبطت غالبًا باضطرابات سياسية أو أنظمة متشددة لجأت إلى استغلال الدين والعادات لتحقيق مكاسب سلطوية.
من هنا، فإن حصر معوقات حضور المرأة اليوم في "الموروث الاجتماعي" وحده يمثل تبسيطًا مخلًا. فثمة عوامل متداخلة، من بينها السياسات الاستبدادية التي وظّفت الموروث والتقاليد الدينية والاجتماعية لتعزيز شرعيتها على حساب الحقوق الفردية، إلى جانب الحروب والصراعات المسلحة التي ساهمت في تقويض مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها مؤسسات تعليم النساء وعملهن. ولا يغفل دور بعض المنصات الإعلامية الدولية التي غذّت صورة نمطية للمرأة الأفغانية كضحية عاجزة عن الفعل والمشاركة.
إن قراءة موضوعية لوضع المرأة الأفغانية تستدعي العودة إلى سجلها التاريخي والاجتماعي، واستحضار النماذج النسائية التي أسهمت في بناء الهوية الوطنية، وتسليط الضوء على أدوارهن في مجالات الأدب والتعليم والسياسة والنضال الاجتماعي، بما يساهم في كسر الأحكام النمطية السائدة، ويدعم مقاربة إصلاحية متوازنة تستند إلى خصوصية السياق الثقافي والاجتماعي، وتستثمر في التجارب النسائية الرائدة.
المرأة بين النصوص الدينية والموروث الاجتماعي في أفغانستان
لم يكن الإشكال قط في النصوص الدينية الإسلامية ذاتها، إذ كرّم الإسلام المرأة ومنحها حقوقًا غير مسبوقة مقارنة بمعظم الحضارات القديمة. غير أن التحدي الحقيقي تجسّد في التفسيرات المتأثرة بالبنى الذكورية والقبلية، والتي ارتبطت بأعراف محلية فرضت سطوتها على فهم النصوص وتأويلها عبر العصور.
فقد شهد المجتمع الأفغاني ظاهرة خطيرة تمثّلت في إلباس بعض العادات القبلية ثوب "الشريعة"، حتى بات من العسير التمييز بين الحكم الديني الأصيل والعرف الاجتماعي الموروث. وممارسات مثل "البدل" (تبادل النساء في الزواج) و"الغيور" (تسليم فتاة كتعويض عن جريمة) ، بل موروث قبلي اجتماعي بحت لا تمت صلة بالتعاليم الإسلامية.
عدّ أحد أبرز الإشكالات التي تواجهنا اليوم هو استمرار الاعتماد على تأويلات فقهية وفتاوى صدرت في شبه القارة الهندية. هذه التأويلات نشأت في ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة تمامًا عن واقع المرأة اليوم، ولم تكن الكثير منها مقبولة حتى في لحظتها التاريخية، مما يثير تساؤلات جدية حول مدى ملاءمتها حاليًا. إن التمسك بها يعيق أي اجتهاد معاصر يعيد قراءة النصوص الدينية بما يتماشى مع متغيرات العصر واحتياجات المجتمع، وبما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك، استغلت بعض النصوص الدينية خارج سياقها لتبرير قيود اجتماعية مجحفة. من الأمثلة الواضحة على ذلك سوء تفسير مصطلح "القوامة"، فغالبًا ما تُفهم بشكل خاطئ على أنها تسلط وهيمنة ذكورية وحاكمية مطلقة، في حين إن جوهرها الحقيقي يكمن في مسؤولية متبادلة للرعاية والحماية.
التعليم بين دعوة الإسلام وخرافة الموروث
تُعد قضية منع المرأة من التعليم واحدة من أخطر الانتهاكات لحقوق الإنسان التي تُمارَس خطأً باسم الدين. ويعود ذلك إلى اعتماد روايات ضعيفة أو موضوعة وظفت عبر التاريخ لتكريس العقلية الذكورية أو الذهنية المجمدة في إقصاء المرأة عن ميدان المعرفة.
فأحاديث مثل "لا تعلموهن الكتابة" أو "استعينوا على النساء بالعرى" حكم عليها علماء الحديث بينهم الذهبي والحاكم بالوضع. بل ويستحيل نسبة هذه الأقوال إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، وهي المعروفة بعلمها وفقهها، وكان كبار الصحابة يتلقون العلم عنها.
كما أن هذه المزاعم تتناقض مع المبادئ القرآنية الصريحة التي تدعو إلى طلب العلم، مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهي دعوة تشمل الرجال والنساء على حد سواء. وقد سجلت كتب التراجم أسماء مئات العالمات والمحدثات، منهن السيدة عائشة، التي تتلمذ على يديها نحو 299 من كبار الصحابة والتابعين.
الحاجة إلى اجتهاد معاصر
إن تجاوز هذه المعضلات يستدعي اجتهادًا معاصرًا يعيد قراءة النصوص الدينية في ضوء مقاصدها العليا، ويحررها من التأويلات الضيقة التي حبستها في قوالب تقليدية. كما يتطلب مواجهة الأحاديث الموضوعة والمفاهيم المشوهة التي تُستغل لتبرير التمييز والحرمان.
فالإسلام، كما عرفه السلف الصالح، دين علم وكرامة وعدل، يساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ويدعوهما معًا إلى السعي للمعرفة والمشاركة في نهضة المجتمع.
انخراط الدول العربية مع أفغانستان
وانطلاقًا من هذه الرؤية، تتعاظم الحاجة اليوم إلى انخراط فاعل من الدول العربية لاسيما الخليجية إلى جانب أفغانستان، على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والمراكز العلمية من أجل مساعدة الشعب الأفغاني على تجاوز أزماته، ودعم المرأة الأفغانية في استعادة دورها، وفق متطلبات العصر، وتعاليم الدين الإسلامي الصحيح، والتقاليد السليمة المنزهة عن شوائب العادات القبلية المتطرفة أو التصورات الخاطئة باسم الدين أو التدين.
فالتجارب التنموية العربية في دعم المرأة والتعليم والعمل الحقوقي والاجتماعي يمكن أن تشكل رافدًا مهمًا في مسيرة أفغانستان نحو الاستقرار والازدهار، ضمن شراكات إنسانية وأخوية قائمة على الاحترام المتبادل وقيم العدل والمساواة.
إن تجاوز هذه الإشكاليات يتطلب قراءة نقدية معاصرة للنصوص الدينية، تنطلق من مقاصد الشريعة العليا، وتحررها من هيمنة التقاليد القبلية والذكورية، إلى جانب تصحيح المفاهيم المغلوطة، وفضح زيف الأحاديث الموضوعة التي استُغلّت لتقييد النساء.
فالإسلام، كما عرفته العصور الذهبية، منح المرأة حق التعلم والعمل والمشاركة في الشأن العام، دون قيد، ودون أن يُعد ذلك مساسًا بقيم الحياء والفضيلة، بل هو تجسيد لكرامة المرأة ودورها الجوهري في بناء المجتمعات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة