لا يمكن النظر إلى الإمارات بوصفها دولة توفّر الوظائف فحسب، إذ إنّها أكثر نفعًا من ذلك، حيث باتت حاضنة تفيء بمشاعر الأمن والأمان
بعد عقد من الزمن تقريبًا على انفجار ما أُطلِقَ عليه ثورات الربيع العربيّ، يبدو تيّار هجرة الشباب العربيّ آخذًا في التصاعد، فقد خلَّفتْ القلاقلُ والاضطرابات خسائرَ فادحة على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ معًا، وجاء فيروس كوفيد-19 الشائه مع بداية 2020 ليُخلّف من ورائه أوضاعًا اقتصاديّة حرجة ومؤلمة، كان من الطبيعيّ معها أن يسعى جُلّ الشباب العربيّ للهجرة، وإن كانت علامة الاستفهام إلى أين المفرّ؟ ...لماذا هذا الحديث الآن؟
الدافع، ولا شكّ، هو نتائج المسح الخاصّ بالشباب العربيّ الذي تجريه مرّة كلّ عام شركةُ العلاقات العامّة "أصداء بي سي دبليو"، والتي تتّخذ من دبيّ مقرًّا لها، وتسلّط الأضواء على الاتّجاهات الإقليميّة الحاليّة.
سريعًا تلقّفت شبكات التلفزة الدوليّة نتائجَ الاستطلاع الأخير، وكذا وكالات الأنباء الدوليّة، وفي المقدّمة منها شبكة "سي إن بي سي" الأمريكيّة، والتي أذاعت تقريرًا مفصَّلاً عن الاستطلاع، وفيه أنّ 42% من الشباب العربي يفكّر جدّيًّا في مقترَح الهجرة إلى بلد آخر، الأمر الذي يُعَدّ توجُّهًا مقلقًا لمنطقةٍ 60% من عدد سكّانها من الشباب.
الاستطلاع الذي نحن بصدده شمل عيّنة من 4000 شابّ عربيّ تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة من 17 دولة عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نصفهم من الذكور والنصف الآخر من الإناث، وقد جرى على مرحلتَيْن: الأولى قبل انتشار الوباء في يناير ومارس الماضيَيْن، والثاني في أغسطس الفائت.
تحمل نتائج الاستطلاعات ألمًا وحزنًا دفينًا من جهة، لكن من ألطاف الأقدار أنّها تقدّم المواساة والعزاء من جانب آخر، وتفتح الباب أمام الأقدار الرحيمة بالبشر، مقدّمة النموذج المحبوب والمرغوب للشباب العربي في قادم الأيّام.... ما معنى هذا الكلام؟
بدايةً، يبدو الألم واضحًا، فارض العروبة التي شهدت موجات هجرة إليها من دول عديدة في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين، لا سيّما من شمال شرق آسيا، من أرمن وتركمان وشراكسة وقبارصة ويونانيّين وغيرهم، ناهيك عن جنسيّات أوربّيّة عديدة كالإيطاليّين والفرنسيّين والإنجليز، وقد كانت مدينة مثل الإسكندريّة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، مدينة كوزموبولتينيّة، أي مدينة معولمة من جرّاء وجود جنسيّات أجنبيّة على أراضيها، لجأت إليها حين أصاب الجدبُ دولَها، ووجدتْ في أرضها ينابيع من الفيض.
والآن، بات الشباب العربيّ يفرّ إلى الخارج، رفضًا للأوضاع الاقتصاديّة من جهة، وسعيًا لفرص العمل، وانتصارًا على البطالة من جهة ثانية، فيما الذين يوفي لهم الحظّ ماليًّا ربّما يسعون إلى فرص تعليميّة أكثر وفرة وأجزل عمقًا.
على أنّ المثير على الوجه الإيجابيّ في المشهد هو أن قبسًا من الضوء يظهر عند نهاية النفق، إذ بَيَّن الاستطلاع أنّ نحو 46% من المستطلعة آراؤهم، جميع الشباب العربيّ قد اختاروا الهجرة إلى الإمارات العربيّة المتّحدة كبلدهم المفضَّل، وتاليًا في سلّم الرغبات إن جاز التعبير جاءت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا والمملكة المتّحدة وألمانيا.
يعنّ لنا أن نتساءل: هل جاءت الاختيارات لتمثّل قراءة في المعكوس، فقد كان الحلم الأمريكيّ على سبيل المثال هو الرغبة الأولى لكلّ شباب العالم وليس الشباب العربيّ، وعليه فما الذي حدث لتتغيّر دَفّة السفينة مفضّلة الإمارات العربيّة أول الأمر على هذا النحو؟
لا نكرّر ما أشرنا إليه كثيرًا من قبلُ، ولكن نؤكّد عليه ونضيف أنّه بعد أن كانت الإمارات العربيّة المتّحدة أرض التسامح والتصالح، حيث العيش وفقًا لقانون ينظّم حياة البشر مواطنين ومقيمين، ويفسح المجال واسعًا جدًّا للاحترام الإنسانيّ والإيمانيّ، الأمر الذي جعل من الإمارات رسالة أكثر منها دولةً، بات هناك بُعْد جديد وهو فتح أبواب السلام واسعة أمام الجميع، لإنهاء الخصامات ووضع حدّ للكراهيات في المنطقة الشرق أوسطيّة، حيث كان الموت عادة، وبدلاً منه هناك الآن مَن يريد الحياة والنمو والاستقرار للأجيال القائمة والقادمة على حدٍّ سواء.
هل ما لدى الإمارات أفكار اقتصاديّة ومداخيل ماليّة عاليّة وفرص وظيفيّة موصولة بأفكار الابتكار وما هو خارج صندوق المعروف والمألوف والموصوف فقط؟
الشاهد أنّه، وبحسب بيانات الاستطلاع، محور الحديث، فإنّ 77% من الشباب العربيّ يسعون للهجرة هربًا من أوضاع اقتصاديّة متردّية تسبّبتْ فيها سياسات غير رشيدة، و87% منهم قلقون بشأن البطالة في بلدانهم، ومع الإقرار بأنّ البعد الاقتصاديّ والبحث عن لقمة العيش يأتي في سلّم أولويّات "ماسلو" للاحتياجات الإنسانيّة في موقع وموضع متقدّمين، إلا أنّ تجربة الإمارات خلال عقودها الخمسة الأخيرة تخبرنا أنّ هناك أبعادًا أخرى تجعل منها المكان المفضّل للشباب العربيّ، لا سيّما وأنّها تجمع بين الحسنيَيْن، أي الأصالة والحداثة معًا.
استطاعت الإمارات أن تقترب من تحقيق الحلم اليوتوبيّ ونموذج المدينة الفاضلة، وقد أظهرتْ أزمة كورونا خلال الأشهر الماضية الاهتمام الفائق من قِبَل الحكومة الإماراتيّة، ولا تزال أصداء كلمات سموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تتردّد في الأذهان: "لا تشلون هَمّ"، أمّا دموعه من جرّاء الولاء والانتماء اللذَيْن ظهرا من المقيمين تجاه الإمارات، فقد دلَّلَ على نجاعة تلك التجربة، هناك حيث العمل بعزم والإنجاز بحزم، والفرح والمرح بما يُدخِل السعادة على القلوب والنفوس، بل والدعوة إلى النجاح والحلم بالإمساك بالنجوم وملامستها طالما كان الحلم مشروعًا.
لعلّ ما لم يقلْه استطلاع الرأي هو أن الإمارات وفي ظلال القوانين البتّارة القابضة على المسؤولية بقوّة دون استثناءات، قوانين تُجَرّم ازدراء إيمان ومعتقدات الآخر، ورؤى تجديديّة تنويريّة، يحسبها المرء عودةً إلى سير الأوّلين الذين أرسوا أصول القانون من صولون اليونانيّ إلى شيشرون الرومانيّ.
في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى الإمارات بوصفها دولة توفّر الوظائف فحسب، إذ إنّها أكثر نفعًا من ذلك، حيث باتت حاضنة تفيء بمشاعر الأمن والأمان على المواطنين والمقيمين، وهذه لو يعلم المرء قيمة عظمى في زمن العولمة وسياقات تسليع الانسان.
يكتب سموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، معلّقًا على نتيجة الاستطلاع بقوله: "الإمارات بلد الجميع.. وقد حاولنا بناء نموذج ناجح.. وتجربتنا وأبوابنا وكتبنا ستظلّ مفتوحة للجميع".
لم يكن الاستطلاع المتقدّم وحده من يشهد لحال ومآل الإمارات في الفترة الأخيرة، فمنذ بضعة أشهر كانت دراسة مشابهة أجراها "مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والإستراتيجيّة"، قد صنّف دولة الإمارات كأفضل بلد عربيّ لأجيال المستقبل، انطلاقًا من قدرتها على اجتذاب المواهب والكفاءات والأدمغة على المستوى العالميّ .
المقدّمات دائمًا وأبدًا تشي بالنتائج والإمارات تستحقّ كلّ ما هو مرتفع في أعلى علّيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة