لم أقرأ السيرة الذاتية التي أصدرها الشيخ محمد بن راشد أخيراً في كتاب حمل عنوان «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاما» بعد.
لم أقرأ السيرة الذاتية التي أصدرها الشيخ محمد بن راشد أخيراً في كتاب حمل عنوان «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً» بعد، لكني مع ذلك قرأت عشرات الأخبار والتقارير التي تشرح موضوعات الكتاب، وتروي بعض ما ورد فيه.
لقد نجحت الأنظمة الملكية لعدد من الأسباب، أهمها أنها استندت إلى شرعيات تقليدية مستقرة لم يظهر أي نزاع جدي بشأنها، وتفادت التحولات الدراماتيكية والسياسات الحادة، ووظفت مواردها بشكل أكثر رشداً من نظيراتها الجمهوريات.
من بين ما ورد في هذا الإطار أن العقيد القذافي أظهر رغبة خلال حديثه مع الشيخ محمد في أن يبني مدينة مثل دبي على ساحل المتوسط في بلاده.
لم ينجح القذافي في تحقيق هذه الرغبة، وهنا يفسر الشيخ محمد السبب بأنه «لم يكن يريد التغيير.. كان فقط يتمنى التغيير.. التغيير لا يحتاج خطابات بل إنجازات».
سيبدو لمن يتتبع ما رشح من صفحات الكتاب أن دبي صارت أيقونة يرنو إليها حكام عرب، ويعربون بلا مواربة عن أمنياتهم في أن يطوروا مدناً مثلها، لكن اللافت حقاً أن الشيخ محمد نفسه يخبرنا عن المدينة التي كانت أيقونته فيما مضى، فيقول: «بيروت أذهلتني صغيراً، وعشقتها يافعاً، وحزنت عليها كثيراً».
أين دبي الآن.. وأين بيروت؟
تلك مقدمة شيقة إذن لمحاولة مقاربة مآلات المدن، وطرح السؤال المهم، الذي لا يُطرح كثيراً: لماذا تدهورت عواصم عريقة، وازدهرت مدن جديدة وطارئة، في الشرق الأوسط المسكون بالتاريخ، والمرتهن للأساطير، والمهجوس بالبنى العتيقة؟
حدث أن تلقيت على هاتفي واحدة من مئات الرسائل التي يتبادلها مستخدمو مواقع «التواصل الاجتماعي» يومياً، وهي رسالة تعرض صورتين إحداهما لدمشق والأخرى لدبي في عام 1950.
تُظهر المقارنة بين صورتي دمشق ودبي عام 1950 مجتمعاً زاهراً وتنسيقاً حضارياً وشموخاً معمارياً ونظافة ورقياً في دمشق، في مقابل خيم وجِمال وأوضاع بائسة لسكان قليلي العدد، يعانون شحاً واضحاً في الموارد في دبي.
نحن نعرف الآن أن الصورة اختلفت تماماً، فتلك دبي، التي لا تتوقف عن إلهام العالم وإثارة إعجابه، عبر إنجازات ونجاحات مميزة، وتلك دمشق التي تنام وتصحو على إيقاع التفجيرات وأصوات الرصاص، مفتقدة الأمن والاستقرار، فيما يعاني سكانها من تداعيات الحرب، وتكاليف القمع، ومخاطر الإرهاب.
من المؤكد أن مقارنات أخرى اعتمدت على إظهار التباين الذي تكشفه الصور بين القاهرة وأبوظبي، أو صنعاء ومسقط، أو بنغازي والكويت، أو بغداد والرياض، وغيرها من المدن التي جرت عليها أحوال الزمان فبدلتها تبديلاً.
يبدو أن بإمكاننا القول إن النظم العربية الملكية ظلت بمنأى عما طرأ على الجمهوريات العربية من تطورات محزنة، سواء في سوريا، أو العراق، أو ليبيا، أو اليمن، أو مصر، أو لبنان، أو السودان.
لا يعني هذا أن الدول العربية الملكية لا تعرف المشكلات الجسام، ولا تواجه أخطاراً وتحديات بطبيعة الحال، ولكنه يعني ببساطة أن تلك الدول امتلكت آليات وطورت سياسات أمَّنت لها الاستدامة والتماسك والنمو، عبر إدارة أزماتها بطريقة أكثر رشداً من تلك التي اعتمدتها أنظمة جمهورية، بدأت عهودها بآمال تطال السحاب، قبل أن تفيق على حقائق مرعبة.
لماذا تنعم سلطنة عمان بالاستقرار مقارنة بانهيار الدولة في اليمن، ويزيد نفوذ الرياض، فيما تتهشم سيادة الدولة في سوريا، وتزدهر الكويت ويتخبط العراق، وتنجح التجربة الوحدوية في الإمارات وينقسم السودان؟
لقد نجحت الأنظمة الملكية لعدد من الأسباب، أهمها أنها استندت إلى شرعيات تقليدية مستقرة لم يظهر أي نزاع جدي بشأنها، وتفادت التحولات الدراماتيكية والسياسات الحادة، ووظفت مواردها بشكل أكثر رشداً من نظيراتها الجمهوريات، واستخدمت قدراً أقل من العنف للحصول على مطاوعة المواطنين في مقابل قدر أكبر من المشاركة وسد الحاجات واحترام المقامات.
حرص القادة الخليجيون المؤسسون على ترسيخ شرعية حكمهم، وحكم أسرهم من بعدهم، عبر سياسات تشاركية، بُنيت على الرضا والتفاهم مع التكوينات الاجتماعية الأساسية لبلدانهم، وهي سياسات ضمنت استمرار الولاء واحترام الشرعية.
سيقول النقاد إن بعض تلك الدول «بلا سيادة حقيقية، وبلا قرار وطني، وبلا تاريخ، وبلا عمق سكاني، وبلا التزام قومي»، وسيكون الرد جاهزاً: «وما الذي فعله من امتلك كل هذا؟».
يعتقد البعض أن العوائد الهائلة التي وفرها إنتاج النفط كانت السبب الرئيسي لاستقرار حكم الشرعية التقليدية، وأنه لولا تلك العوائد لما تمكنت تلك الدول من مواجهة الأزمات التي ضربت المنطقة.
إن هذا الاعتقاد خاطئ؛ لأن الأردن والمغرب والبحرين لا تمتلك مثل تلك العوائد، كما أن دولاً عربية جمهورية امتلكت ثروات طبيعية ضخمة، مثل العراق وليبيا، لكنها أدارت تلك الثروات بنزق ورعونة، فكانت وبالاً عليها بدلاً من أن تكون ظهيراً للاستقرار والتنمية.
أدى النفط دوراً مؤثراً في ازدهار عدد من الدول العربية، لكنه لم يكن كافياً ليؤمِّن الاستقرار لأي منها، في حال لم تتبع سياسات رشيدة في إدارة عوائده، وفي تجنيب نفسها مخاطر المغامرات الكبرى التي أدمنتها دول أخرى.
لم تتورط الملكيات في نزاعات بينية بقدر الإمكان، وأدارت الخلافات بينها بأقل قدر ممكن من النزق والانفلات، على عكس بعض الدول الجمهورية التي سخرت طاقتها ومواردها من أجل أحلام التوسع والهيمنة.
اتبعت بعض النظم الملكية العربية سياسات تسلطية، وأغلقت المجال العام، وتورطت في انتهاكات حادة لحقوق الإنسان، وقمعت المعارضة، لكن ذلك لم يكن بالقدر الذي اعتدنا رؤيته في معظم الجمهوريات، وقد جرى ضمن سياق تقدم وإنجاز، وبالتوازي مع حالة سلام واستقرار، وبرفقة عطاءات وتقديمات تستخدم قدراً من العوائد الوطنية في تعزيز الولاء والمطاوعة.
لا يوجد نمط حكم ينتج تقدماً بالضرورة، ولو مضت قطر قدماً في سياساتها الإقليمية المأفونة فستنهار رغم كونها ملكية، ولو اتبعت تونس مسار الحوكمة والإنجاز، واحترمت كرامة مواطنيها وسدت حاجاتهم لبلغت مرادها ونالت حظوظها، رغم كونها جمهورية. ثم إن تركيا وإسرائيل ليستا ملكيتين.
هل يمكن للجمهوريات العربية تجاوز هذه العثرات؟ وهل يمكن للحواضر العتيقة استعادة أمجادها؟
نعم بكل تأكيد، فالمسألة تتعلق بأسلوب الحكم وليس نمطه.
ليس هذا هجوماً على «الجمهورية» ولا إطراءً لـ«الملكية»، بقدر ما هو سعي لاستخلاص العبر: الشرعية والرضا، والإدارة الرشيدة، واحترام كرامة الناس، وأداء الأدوار الإقليمية والدولية في حدود الطاقة والكتلة الحيوية.. تلك عوامل ازدهار العمران، أما الظلم والخطل فمؤذنان بخرابه.
نقلا عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة