مع بداية علاقات البلدين الشقيقين وجد الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه رحمه الله في الشيخ زايد الرجل الشهم الكريم، المُبادِر بمد جسور التعاون والدعم لتعزيز أواصر الأخوة بين الشعبين الإماراتي والموريتاني.
عام 2004 لازمت الوالد -رحمة الله عليه- في آخر أيامه بمستشفى الشيخ زايد في العاصمة الموريتانية نواكشوط؛ وحدث أن قابلتُ أمام العناية المركزة سيدة طاعنة في السن، ألقيت عليها التحية، وتجاذبنا أطراف الحديث، ثم علمت منها بعد ذلك، خلال الأحاديث العامة التي تدور بين ذوي المرضى، بحكم وجودهم في حيز واحد، وطبيعة وتقاليد المجتمع المفتوح، أنها ترافق وحيدَها الذي كان يُعيلها وشقيقاته السبع، قبل تعرضه لحادث سير، دخل إثره غيبوبة تامة.
سردت عليّ العجوز الأصيلة رحلة التمريض التي مرت بعدة محطات قبل مستشفى الشيخ زايد الذي اغرورقت عند ذكره عيناها بالدموع وهي تكيل المدح للشيخ زايد، وتسأل الله له السعادة الأبدية وصلاح الخلف.. لم تكن المرأة وحدها فجميع الموريتانيين يكنون للشيخ زايد رحمه الله حباً كبيراً، مثل غيرهم من شعوب العالم التي وصلتها أياديه البيضاء.
الشعب الموريتاني الذي حصد ثمار العلاقة الشخصية الراقية بين المرحومين الشيخ زايد والمختار يعول كثيرا اليوم على الصداقة التي تربط صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد الغزواني، ما يجعل العلاقات الموريتانية الإماراتية اليوم أقرب للظروف التي نشأت فيها أول مرة
كان مستشفى الشيخ زايد وقتَها ملجأ الكثيرين من سكان الأحياء الفقيرة، فهو ثاني مجمع طبي متكامل بعد المستشفى الوطني في العاصمة الموريتانية نواكشوط، ويتذكره الجميع ويذكرونه مثل غيره من المشاريع الإماراتية التي عم نفعُها الموريتانيين كمحطة الشيخ زايد للطاقة الشمسية، أكبر مشروع من نوعه في أفريقيا، والتي كان لها الفضل أيضا في إنارة آلاف البيوت في العاصمة نواكشوط، وقبلها المساهمة الإماراتية في "طريق الأمل" الرابط بين شرق موريتانيا وغربها، وآلاف المشاريع الخيرية التي نفذتها جمعية الهلال الأحمر الإماراتي، ومؤسسة خليفة للأعمال الإنسانية، ومؤسسة زايد بن سلطان الخيرية، مثالاً لا حصراً، بالإضافة لآلاف فرص العمل للموريتانيين العاملين في مجالات الشرطة والأمن والإفتاء والقضاء والتعليم والصحافة.
مع بداية علاقات البلدين الشقيقين وجد الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه رحمه الله في الشيخ زايد الرجل الشهم الكريم، المُبادِر بمد جسور التعاون والدعم لتعزيز أواصر الأخوة بين الشعبين الإماراتي والموريتاني.
فبعد قيام دولة الإمارات 1971 بثلاث سنوات وتحديدا في عام 1974 قام الشيخ زايد رحمه الله بأول زيارة لموريتانيا، وهنا لعبت دبلوماسية الأخوة دورا كبيرا في وضع اللبنات الأولى لعلاقات وصلت أوجها في فترة قصيرة، ليصبح الوافد الموريتاني إلى الإمارات محط احترام وتقدير وترحيب ومصدر دخل للكثير من البيوت الموريتانية.
كان الود المتبادل بين الشيخ زايد والمختار ولد داداه، رحمة الله عليهما، رافدا مهما لتنمية العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، شأنه في ذلك شأن الجانب الرسمي من العلاقة، فكانت الثمرة علاقات متينة بين أبناء البلدين على المستوى الشعبي، إلى درجة أن الكثيرين من أفراد الجالية الموريتانية في الإمارات يجزمون بأنهم لم يشعروا بالغربة قط على أديم الإمارات، وأن الجالية الموريتانية وجدت من القواسم المشتركة مع الشعب الإماراتي ما لم تجده في محيطها العربي القريب.
وإذا كانت الحكومات الموريتانية المتعاقبة قد اعتمدت في أغلب مشاريعها التنموية الكبرى على الدعم الإماراتي، فإن العلاقات الموريتانية الإماراتية تأسست ابتداءً على دبلوماسية القوة الناعمة، حيث وظّف الشيخ زايد رحمة الله عليه القواسم المشتركة بين شعبه والشعب الموريتاني فاهتم بتوفير فرص عمل للطبقة الأكثر فقرا والأقل تعليما من الشعب الموريتاني، في مهن تتعلق بثقافتهم البدوية المشتركة مثل رعي الإبل.. وهكذا تمتع المئات من الموريتانيين بمزايا كبيرة في الدائرة الخاصة لأملاك المرحوم الشيخ زايد.. وأسهمت هذه الفكرة الخارقة في بناء دبلوماسية شعبية حملت رايتها الطبقة الأكثر فقرا في موريتانيا.
وفي عهد الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع، الذي حكم البلد عقدين، عرفت علاقة البلدين فتورا، حالها كحال العلاقات الموريتانية الخليجية إجمالاً، غداة وقوف ولد الطايع مع صدام حسين في احتلاله للكويت، إلا أن الشيخ زايد حرص على أن تبقى العلاقات مع الشعب الموريتاني طبيعية، وبنفس المستوى الذي تأسست عليه أصلاً.
لقد أسس الشيخ زايد والمختار ولد داداه لعلاقة لم تُهمل اشتراك الشعبين دينيا في المذهب المالكي.. كما لم تُهمل الموروث والعادات والتقاليد البدوية المشتركة.. ولإن كان النموذج الإماراتي قد نجح نجاحا باهرا في الحفاظ على أصالة المجتمع وعاداته وتقاليده مع ما وصلت إليه الدولة من رقي وتمدن، فإنه النموذج الملهم للموريتانيين عموما، لأنه الأصلح في نظرهم.
دبلوماسية الشيخ زايد الفريدة من نوعها وعلاقته الخاصة بالشعب الموريتاني ورثها عنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان أطال الله عمره، كما ورث عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حمل هم العمل العربي المشترك، ومكافحة الفقر والإرهاب بالتنمية ونشر الوسطية والتسامح في المجتمعات العربية.
الشعب الموريتاني الذي حصد ثمار العلاقة الشخصية الراقية بين المرحومين الشيخ زايد والمختار يعول كثيرا اليوم على الصداقة التي تربط صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد الغزواني، ما يجعل العلاقات الموريتانية الإماراتية اليوم أقرب للظروف التي نشأت فيها أول مرة، فروح السلف متاحة الآن في الخلف، والأرضية ممهدة أكثر من أي وقت مضى لتَرقى هذه العلاقات للمستوى الذي كان يطمح له المؤسسان.
صحيح أن أفرادا من الشعب الموريتاني لا يريدون لهذه العلاقة أن تتطور، ويبذلون ما في وسعهم لتعكير صفوها، وهم المنتمون لتنظيم الإخوان والذين تربطهم علاقات بمحور الشر في المنطقة، رغم أن بعض قادتهم عاشوا فترة طويلة من أعمارهم على أرض الإمارات وتمتعوا بخيراتها.
أمثال هؤلاء يزعجهم أي تقارب إماراتي موريتاني ولكن ليموتوا بغيظهم؛ فبعد أكثر من عقدين من الزمن عشتُهما بين أبناء زايد لدي الآن ثقة ويقين راسخان بأن تطور هذه العلاقات خلال المرحلة القادمة سيتعزز باطراد، وأن الخلف سيواصل السير قُدما، كما خطط وعمل السلف الميمون.. رحم الله السلف وبارك في الخلف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة