الإمارات باتت رقما صعبا في حسابات الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق تقوم على جهود الوساطة بقوة ونفوذ إيجابيين لصالح الأشقاء العرب
تبقى الأزمة الليبية واحدة من أعمق الجراحات الثخينة في الجسد العربي في الآونة الأخيرة، ويبدو أن الحلول الأممية بشأنها غير ناجحة، الأمر الذي يؤكد قولا وفعلا أن طرح القضايا الجوهرية يبدأ من عند الذات لا من طرف الآخرين.
قد لا يكون الطريق إلى ليبيا الجديدة يسير أو معبدا، لكن الإرادة الصالحة والوساطة الإماراتية الناجحة والدعم العربي كفيل بانتشال ليبيا من وهدة الإرهاب والإرهابيين في الداخل، ومن براجماتية واستغلال الغرب في الخارجهل نجحت الإمارات العربية المتحدة الأيام القليلة الفائتة في إحراز نجاحات بعينها في الطريق لحل تلك الأزمة التي طالت ويخشى أن تطول لسنوات مقبلة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال ربما يتوجب علينا الإشارة إلى عدة حقائق جوهرية لتقييم حال ومآل الأزمة الليبية مؤخراً، وفي المقدمة منها أن ما جرى في ليبيا كان ولا شك أمراً كارثياً من البدايات، ذلك أنه مهما اتفقنا أو افترقنا مع أو ضد نظام العقيد القذافي إلا أن من يدفع الثمن اليوم هو الشعب الليبي، لا سيما أن الفوضى الضاربة أطنابها في شمال وشرق وجنوب البلاد باتت تمثل تهديداً إقليمياً ودوليا، وليس شأناً محلياً فحسب.
في هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن الذين سارعوا إلى إسقاط نظام القذافي لا سيما من الجانب الأوروبي لم يتوقفوا طويلاً أمام سيناريو ما يعرف باليوم الثاني، بمعنى وماذا بعد؟ ومن سيملأ الفراغ الذي تركه الحاكم السابق؟ وهل هناك من يضمن بقاء الدولة الليبية موحدة ومركزة في جهاز حكم واحد كما كان الحال من قبل؟
لا نود تغليب فكرة المؤامرة، لكن بحال من الأحوال ما يجري على الأراضي الليبية يثبت أن نواياً بعينها كانت قائمة لجعل ليبيا خلفية لوجستية لجماعات أصولية وإرهابية لا تغيب عن الأعين، وإن تركيا وقطر لعبتا دوراً متقدماً ولا تزالان حاضرتين في هذا الإطار.
ومن جهة ثانية، تبين الوساطات الأوروبية -خاصة الفرنسية والإيطالية- أن الهدف ليس تحقيق مصالح الليبيين أنفسهم، وإنما جل هم هؤلاء وأولئك هو الحصول على أكبر قدر من المنافع الاقتصادية، سواء تعلق الأمر باحتياطيات ليبيا من الغاز والنفط الموجودين بكثرة على السواحل الليبية، أو بقضايا إعادة الإعمار وفتح مجال الاستثمار في دولة ظلت بعيدة عن معاني ومباني الحداثة والرأسمالية، وكافة توجهات النظام النيوليبرالي الاقتصادي.
في هذه الأجواء يأتي الحديث عن الوساطة والجهود الإماراتية الأخيرة لتقريب الفرقاء في ليبيا وحل الأزمة، وإعادة ليبيا دولة موحدة غير منقسمة على ذاتها، وقد علمتنا صروف الدهر أن الدولة التي تنقسم على ذاتها تخرب، والبيت الذي ينقسم على ذاته لا يثبت، بل يسقط ويكون سقوطه مريعاً.
لقد نجحت دولة الإمارات بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية في تقريب وجهات نظر الليبيين، وذلك بعد الاجتماع الذي رعته القيادة الإماراتية والذي جمع المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي، وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق بطرابلس.
كان الاجتماع الذي دعمته الأمم المتحدة تحت سماء الإمارات، وفي حضور المبعوث الأممي إلى ليبيا الدكتور غسان سلامة، أفرز رؤية بشأن ضرورة إنهاء المراحل الانتقالية في ليبيا من خلال إجراء انتخابات عامة، وكذلك الالتزام بالمحافظة على استقرار البلاد وتوحيد مؤسساتها.
ما الذي يعنيه ذلك النجاح الذي دعمته وزخمته الإمارات؟
دون تزيد يمكن القطع بأن الإمارات باتت رقماً صعباً في حسابات الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق تقوم على جهود الوساطة بقوة ونفوذ إيجابيين لصالح الأشقاء العرب من المحيط إلى الخليج، ومع هذا الاجتماع الثاني بين الأطراف الليبية في الإمارات فقد تبين للجميع تغير واضح في مواقف بعض الأطراف لا سيما موقف السراج، ذلك أن ما يجري في طرابلس في الغرب من شيوع المليشيات التابعة لجماعات الإسلام السياسي لن يقود ليبيا إلى أي شكل من أشكال الاستقرار، في حين أن توحيد الجهود المسلحة وترتيب صفوف القوات المسلحة الليبية هو فقط الأمر القادر على إنقاذ ليبيا، وهو ما تسير الإمارات في طريقه منذ سنوات.
تقطع جهود الإمارات ووساطتها السلمية الطريق على قوى إقليمية مواقفها واضحة، وأفعالها فاضحه لنوايا حكامها، وفي المقدمة منها كما أسلفنا قطر وتركيا. أما عن الأولى فهي التي تلطخت أياديها بدماء الليبيين منذ وقت بعيد، وهي من أرسلت رموز القاعدة ووفرت لهم الملجأ والملاذ على أراضيها مثل عبدالحكيم بلحاج رجل القاعدة الأخطر، ليكون عقبة كؤود في حياة الليبيين، وهي التي لا تنفك ترسل الأسلحة بكميات وافرة، وتغدق الأموال على الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين فرع ليبيا.
أما تركيا فهي التي توفر الأدوات اللوجستية لتهريب وتسريب الإرهابيين إلى الداخل الليبي، عطفاً على استخدام قطعها البحرية في تهريب الأسلحة الثقيلة لمدن ليبيا، ولا يغيب عن ناظر المحلل المدقق للأزمة الليبية القطع بأن المئات من العناصر الإجرامية الداعشية تسربت من العراق وسوريا إلى الأراضي التركية ومنها إلى ليبيا، في محاولة جديدة لإقامة دولة الخلافة المزعومة على الأراضي الليبية.
ولا تتوقف أهمية الوساطة الإماراتية وفي جانب كبير منها عند ليبيا فقط، وإنما تمتد إلى دول الجوار لا سيما مصر بداية، هذا في الوقت الذي لا تزال تستمر فيه الأحقاد القطرية والتركية على شعب الكنانة الذي طرد الأصوليين شر طرد، وما يحدث في مناطق الظهير الصحراوي الغربي الليبي على الحدود مع مصر لهو رغبة في الانتقام من المصريين، ولن تتوقف محاولات الإرهاب المستمرة ضد الشعب المصري لترويعه من خلال تسريب إرهابيي القاعدة وداعش، إلا إذا سلكت ليبيا المسار الصحيح لتصبح دولة قوية وموحدة وذات سيادة.
أما السياق والنطاق الأوسع لأهمية الوساطة الإماراتية في الأزمة الليبية فيتصل بخطط القاعدة وداعش، وما بينهما من إرهاب مستقر ومستمر، ومؤامرات بشأن التمدد جنوبا في عمق القارة الأفريقية، وبناء تنظيمات مشابهة ومع استغلال الأحوال الأمنية المتردية لعدد من الدول الأفريقية في الوسط والجنوب.
تعمل الإمارات من أجل تعزيز من مساعي المصالحة الداخلية الليبية، وبلا شك أنها قادرة على مساندة الليبيين في طريق الانتخابات الموحدة للدولة، وإعادة ترتيب صفوف القوات المسلحة، ومواجهة سيناريوهات الابتزاز الارهابي من جهة، والاستنزاف الأممي من جهة أخرى، ولعل ترحيب الليبيين والعرب باستثناء جزيرة الشر يعني أن هناك أملاً في ليبيا قوية عفية، ليبيا تكون إضافة حقيقية للحضور العربي على شاطئ المتوسط.
قد لا يكون الطريق إلى ليبيا الجديدة يسيرا أو معبدا، لكن الإرادة الصالحة والوساطة الإماراتية الناجحة والدعم العربي كفيل بانتشال ليبيا من وهدة الإرهاب والإرهابيين في الداخل، ومن براجماتية واستغلال الغرب في الخارج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة