في إطار الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة النفوذ المتزايد للصين وروسيا على الساحة العالمية، تركز الولايات المتحدة على تعزيز التحالفات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بهدف تحقيق توازن استراتيجي يحد من تأثير الصين، خاصة في بحر الصين الجنوبي.
كما تسعى واشنطن إلى احتواء نفوذ روسيا من خلال فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، مع دعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً في مواجهة الغزو الروسي، وتعزيز دور حلف الناتو، والعمل على عزل موسكو دولياً نتيجة سياساتها العدوانية، ومتزامناً مع ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى حماية مصالحها وحلفائها، بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي.
وتشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية واقتصادية جذرية، حيث يسعى العديد من الدول إلى إعادة تشكيل استراتيجياتها وتحالفاتها بما يتماشى مع مصالحها الوطنية والإقليمية. من بين هذه الدول، تبرز الإمارات العربية المتحدة لاعباً رئيسياً يتبنى سياسات واقعية ومنفتحة تؤثر بشكل فعال على محيطها الإقليمي والدولي. ومن بين القوى المؤثرة في المنطقة، برزت حركة طالبان التي استعادت السلطة في أفغانستان عام 2021 عقب انسحاب القوات الأمريكية.
في هذا السياق، يُطرح السؤال حول دوافع الإمارات العربية المتحدة لفتح قنوات التواصل مع طالبان. ويأتي استقبال الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، لسراج الدين حقاني، أحد أبرز قادة طالبان، العام الحالي، كخطوة لتعزيز التعاون بين البلدين وتحقيق الاستقرار في المنطقة، خاصة في المجالات الاقتصادية والتنموية ودعم إعادة الإعمار في أفغانستان. كما أن زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مؤخراً للملا محمد حسن أخوند، رئيس الوزراء الأفغاني، للاطمئنان على صحته، حيث يعالج في أبوظبي، تعد لفتة إنسانية تعكس القيم الإنسانية للقيادة الإماراتية وشعبها الكريم، وتحمل في جوهرها رسائل ودلالات عدة.
تَعتبر الإمارات أفغانستان ذات أهمية استراتيجية وسياسية واقتصادية لعدة أسباب، والتي سيتم تناولها في النقاط التالية:
السياسة المرنة الواقعية
سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة تتميز بالانفتاح والواقعية في تعاملها مع أفغانستان وبقية العالم؛ فهي تُعد من أكثر الدول العربية استقبالاً للثقافات والأديان المختلفة، حيث تستضيف ملايين الوافدين، وتُطور بنية تحتية تدعم التنوع وتحمي حقوق الأقليات.
الإمارات تسعى للريادة في الابتكار والتكنولوجيا الحديثة، مع التركيز على الطاقة المتجددة والتكنولوجيا والتعليم. كما تبني شراكات استراتيجية مع دول متقدمة اقتصادياً، وتحافظ على سياسة متوازنة تتجنب التدخلات إلا في الضروريات، مع تعزيز علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي.
تعمل الإمارات على تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، عبر الاستثمار في السياحة والتجارة والتكنولوجيا الخضراء، مما يساعدها على التكيف مع التغيرات العالمية، وضمان استدامة طويلة الأجل.
تساهم هذه السياسات في تعزيز مكانة الإمارات باعتبارها دولة مستقرة ومؤثرة، وتسعى لتحقيق سياسة خارجية متوازنة وشاملة، ومن شأنها التفاعل مع حكومة الأمر الواقع لطالبان، ما يعكس نهجها البراغماتي، من تعزيز مكانتها بوصفها وسيطاً دولياً في الأزمات.
التنافس الجيوسياسي والتأثيرات الإقليمية
تعزز الإمارات من علاقاتها مع طالبان في ظل التنافس الدولي والإقليمي حول أفغانستان، وتسعى من خلال هذه العلاقات إلى أن يكون لها تأثير أكبر في إعادة بناء أفغانستان، وتوسيع نفوذها في المنطقة، بما يتماشى مع استراتيجيتها الإقليمية من موقعها كقوة إقليمية فاعلة، عبر بناء تحالفات مع دول ذات تأثير، وتقليل نفوذ القوى المنافسة أو تحجيمها، مما يسهم في تعزيز موقفها على الساحة الدولية.
استقرار الأمن الإقليمي
إن الأمن الإقليمي عنصر رئيسي في الاستراتيجية الإماراتية. بدلاً من مواجهة وجود طالبان في السلطة، تسعى الإمارات لاستغلال هذا الواقع لبناء علاقات تساهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة، والأمر نفسه يتبعه العديد من الدول المحيطة بأفغانستان، بما في ذلك الدول الغربية مثل الولايات المتحدة التي تنتهج سياسة مشابهة. الإمارات تدرك أن تجاهل طالبان قد يزيد من مخاطر عدم الاستقرار، مثل تصاعد الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والفوضى التي تهدد الأمن الإقليمي والدول.
المصالح الاقتصادية
تلعب المصالح الاقتصادية دوراً كبيراً في تحديد سياسات الدول، ويشار في هذا الصدد إلى أن أفغانستان، رغم التحديات الأمنية والإصلاحات السياسية، تمتلك موارد طبيعية هائلة مثل الليثيوم والنحاس والحديد. تسعى الإمارات إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، وقد ترى في أفغانستان فرصة للاستثمار، مما يمكن أن يعزز استقرارها، ويزيد من تأثيرها الإقليمي والدولي.
الاستراتيجية الإماراتية في أفغانستان وآسيا الوسطى تركز على الاستثمارات المتنوعة، وتشمل هذه الاستثمارات:
• الاستثمار في البنوك والمؤسسات المالية.
• الاستثمار في مشاريع النفط، الغاز، والطاقة المتجددة.
• تطوير مشاريع مثل الطرق والموانئ والمطارات.
• تنفيذ مشاريع سكنية وتجارية كبرى.
• تعزيز العلاقات التجارية عبر استثمارات في الزراعة والصناعة.
تساهم هذه الاستثمارات في النمو الاقتصادي، وتعزيز العلاقات بين الإمارات ودول آسيا الوسطى، مما يعزز دور الإمارات بوصفها شريكاً رئيسياً في استقرار وتنمية أفغانستان. كما أن أفغانستان تُعد همزة وصل مهمة بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، والصين والشرق الأوسط. الإمارات أيضاً قدمت مساعدات إنسانية وتنموية كبيرة لأفغانستان في مجالات البنية التحتية، الصحة، والتعليم.
الخاتمة
انفتاح الإمارات العربية المتحدة على أفغانستان والدول المحيطة يعكس استراتيجيتها الرامية لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وتعزيز مكانتها كقوة إقليمية فاعلة من خلال تعزيز علاقاتها مع طالبان؛ لتحقيق توازن بين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، ومواجهة التحديات الجيوسياسية في المنطقة.
سياسة الإمارات العربية المتحدة ترتكز على التقارب مع الأطراف المختلفة لتحقيق الاستقرار الإقليمي وتنويع الاقتصاد، وتعزيز نفوذها الدولي، وزيادة فرصها الاقتصادية. النموذج الإماراتي يُظهر المرونة والتكيف مع المتغيرات العالمية والإقليمية واستغلال الفرص لتحقيق مصالح وطنية ودولية، وذلك من خلال استراتيجية شاملة لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي والدولي، وفقاً لرؤيتها المستقبلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة