في منطقة أنهكتها الصراعات وسوء الفهم، يصبح الفعل العقلاني عرضة للتشويه، وتتحول المسؤولية إلى تهمة، والدور الإيجابي إلى مادة دائمة للتشكيك…
هكذا يُقرأ الدور الإماراتي أحياناً، لا من زاوية الوقائع، بل من خلال اتهامات وسرديات جاهزة تبحث عن شماعة سياسية أكثر مما تبحث عن حقيقة.
اليمن يقدّم مثالاً واضحاً على هذا الالتباس، حين اندلعت الفوضى قبل نحو عقد، لم تكن الإمارات في موقع المتفرج، بل كانت في قلب المشهد، ضمن تحالف عربي قادته المملكة العربية السعودية الشقيقة لوقف انهيار دولة عربية كاملة…
من تحرير عدن، إلى مواجهة تنظيم «القاعدة» في المكلا، إلى تأمين الساحل الغربي وحماية أحد أهم الممرات البحرية في العالم، أدت الإمارات دوراً محورياً في معارك مفصلية غيّرت ميزان القوى على الأرض وشهدت لها دول العالم بما فيها الولايات المتحدة بالكفاءة والاحتراف والإنجاز ... ولم يكن ذلك سعياً إلى نفوذ، بل مواجهة مباشرة مع فوضى مسلحة كانت تهدد أمن الإقليم بأكمله، من الخليج إلى البحر الأحمر.
وبعد ما سُمّي الربيع العربي، دخلت المنطقة واحدة من أخطر مراحلها في التاريخ الحديث… دول سقطت، جيوش تفككت، وجماعات متطرفة تمددت مستفيدة من فراغ قاتل… في تلك اللحظة تحملت الإمارات أكثر مما كان متوقعاً من دولة بحجمها الجغرافي، لكنها فعلت ذلك انطلاقاً من إدراك عميق بأن ترك الساحات للتطرف ليس خياراً، وأن كلفة البقاء في موقع المتفرج ستكون أعلى بكثير من كلفة الفعل… وفي سبيل ذلك لم ترفع شعارات، ولم تمارس مزايدات، بل تحركت حيث رأت أن الخطر حقيقي ومباشر.
من هنا، يبدو السؤال المستغرب حول اهتمام الإمارات بالسودان سؤالاً في غير محله، كأن السودان يعيش في فراغ جغرافي، أو كأن أمن البحر الأحمر واستقرار القرن الأفريقي ومنع تحوّل دولة عربية محورية إلى ساحة صراع مفتوحة لا يمسّ أحداً سواها!. والمفارقة أن تدخلات ودعم أطراف دولية وإقليمية أخرى في السودان لا تُقابل بالاستنكار بل ولا يتم ذكرها وكأن المعايير تُفصّل بحسب الأسماء لا بحسب الأفعال!
أي قراءة منصفة للمشهد الإقليمي تُظهر أن الإمارات ملتزمة بدورها ضمن حدود واضحة، وهي لا تبحث عن زعامة، ولا تسعى إلى ملء فراغ القيادة على حساب الآخرين، بل على العكس تماما، في مراحل كثيرة عانت فيها المنطقة من فراغ استراتيجي ومن غياب الفعل القيادي، دعمت الإمارات من يجب أن يقود، ووقفت معه حتى يستعيد زمام الأمور، إدراكاً منها أن الاستقرار لا يُبنى بالتنافس على الأدوار، بل بتكاملها.
من يعرف الإمارات عن قرب، ومن يعيش فيها من عرب وأجانب، يدرك أنها دولة براغماتية بامتياز تركيزها الأساسي ينصب على بناء نموذج تنموي مستدام، والاستثمار في الإنسان والمستقبل، وإنهاء الأزمات لا إدارتها، لكنها، في الوقت ذاته، تدرك حقيقة بسيطة: لا يمكن لأي دولة في المنطقة أن تنعم بالاستقرار وسط محيط مشتعل، ولا يمكن للتنمية أن تزدهر بينما الجماعات المتطرفة تحاول السيطرة على الدول وتفكيك المجتمعات.
في هذا السياق، يصبح الدور الإماراتي جزءاً من سياسة وقائية عقلانية، لا مشروع نفوذ، كما قال بوضوح ذلك الدكتور أنور قرقاش: "لا تسعى الإمارات إلى زعامة ولا إلى نفوذ، بل تعمل مع شركائها من أجل منطقة مستقرة ومزدهرة وخالية من التطرف"... عبارة تختصر نهجاً كاملاً، لا موقفاً عابراً.
أخيرا.. من حق أي دولة أن تختلف مع الإمارات في التقدير السياسي، لكن من المهم أن يبقى هذا الاختلاف موضوعيا ومنصفاً للوقائع… أما تحويل كل حضور مسؤول إلى مؤامرة، فلا يسيء إلى الإمارات وحدها، بل يعكس أزمة أعمق في فهم طبيعة ما يجري في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة