على مر العصور عرفت حاضرة الفاتيكان باباوات عظام، كل منهم اتسم بصفات بعينها، فكان هناك باباوات قديسون لاهوتيون كبار، مفكرون ثقات متصوفون
على مر العصور عرفت حاضرة الفاتيكان باباوات عظام، كل منهم اتسم بصفات بعينها، فكان هناك باباوات قديسون لاهوتيون كبار، مفكرون ثقات متصوفون، ضربوا أمثلة غير مسبوقة في مدارات الروحانيات، إلى آخر ما يمكن أن يتعارف عليه البشر من فصول الإبداع.
يمكن القول إن شهادة بابا روما للإمارات سوف تبقى إرثاً قوياً ومنطلقاً أدبياً رائعا في قادم الأيام، وبما يقوي من أواصر الصلة بين الطرفين من أجل تعميق الاحترام المتبادل، وترسيخ الحوار بين أتباع الأديان والعمل من أجل تعزيز السلم ونشر السلام والأخوة بين جميع البشر.
غير أن القارئ غير المتخصص في شؤون حاضرة الفاتيكان يغيب عنه الفارق الكبير بين حاضرة الفاتيكان والكنيسة الرومانية الكاثوليكية قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وما بعده.
قبل ذلك التاريخ لم يكن البابا يمشي على الأرض، بل يحمل على الأكتاف في محفة ذهبية. وبعد المجمع صار إنساناً اعتيادياً، يمهر قراراته البابوية بتعبير: "خادم خدام الله".
غير أن نموذج البابا فرنسيس وعن حق، لم تعرفه أروقة حاضرة الفاتيكان من قبل؛ ذلك إننا أمام بابا مليء بالتواضع، قلبه ممتلئ بالمحبة تجاه الغير، ومن حسن الطالع أن دولة الإمارات العربية المتحدة أضحى لها نصيب وافر في قلب الحبر الروماني الأعظم فرنسيس.
ما الذي يدعونا إلى هذا الحديث، لا سيما أن العلاقة بين بابا الكنيسة الكاثوليكية والإمارات قد اتخذت منحى هو الأول من نوعه في التاريخ بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية بنوع متميز بعد الزيارة التاريخية لاول خليفة لبطرس كبير الحواريين إلى جزيرة العرب، وإصداره بالشراكة مع شيخ الأزهر وثيقة هي بدورها الأولى من نوعها عبر التاريخ بقديمه وجديده؛ وثيقة "الأخوة الإنسانية".
قبل ساعات قلائل كان الحبر الأعظم يستقبل في مكتبه بالقصر الرسولي بالفاتيكان السيدة "سارا غازي المهري"، القائم بالأعمال بالإنابة بسفارة الدولة في مدريد، وفيما حملت الدبلوماسية الإماراتية تحيات رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وتحيات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، كان الحبر الروماني يصرح بحديث يحمل دلالات عظيمة الشأن، تخرج من فم رجل بوزنه وحضوره العالميين.
يخبر البابا فرنسيس السيدة "سارا"، ضمن حديث مطول متبادل أن "التسامح والإمارات وجهان لعملة واحدة".. يا له من تعبير بديع يخرج على لسان رجل جل همه حول العالم أن ينشر السلام ويوقف سعي الخصام.
ويدرك المراقبون في شؤون الفاتيكان أن هذه المدينة ذات المساحة الصغيرة لديها دبلوماسية عالية الفاعلية، ونادرة حول قارات العالم الست؛ ما يعني أنها تمتلك أدوات معرفية تقيم من خلالها أدوار الدول وقادة البلدان على الصعيد العالمي، وخير دليل على ذلك هو الدور التاريخي الذي لعبته مؤسسات الكرسي الرسولي حول العالم، والبابا نفسه في مواجهة الشيوعية والاتحاد السوفيتي في ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن انهار، وذلك من خلال الحضور الكاثوليكي حول العالم.
ما الذي يعنيه بابا الكنيسة الكاثوليكية حين يشير إلى أن الإمارات العربية المتحدة والتسامح وجهان لعملة واحدة؟
نحن ندرك إدراكاً يقينياً أن زعيم الكاثوليكية حول العالم، الأب الروحي لما يزيد على مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي، لا يجامل ولا يداهن، بل ينطق بكلام الحق والحكمة، وهو يعرف أن الجميع ينتظر مقولاته واعتبارها دستوراً أدبياً وأخلاقياً لما يقدمه الرجل من مثال إنساني شديد الندرة في عالمنا المعاصر.
تصريح الحبر الأعظم يعني أن الإمارات بالفعل باتت رواق الأمم الحديث وقبلة العالم في البحث عن التسامح والتصالح، لا سيما أنها جغرافيا قائمة في منطقة مشتعلة بالدوجمائيات القاتلة، تلك التي يمكن أن تقود العالم في طريق غرق الحضارات، بعد أن استفحلت الهويات القاتلة من حول المسكونة.
خلال زيارته للإمارات لمس فرنسيس، ولا شك بيديه ونظر بعينيه، كيف أن قرابة المئتي ألف فرد من أكثر من ستين جنسية من مختلف بقاع العالم، كيف اجتمعوا على ملعب أبوظبي الكبير لإقامة أولى شعائر دينية إيمانية كاثوليكية في تاريخ المنطقة برئاسة البابا.
لم يخبر أحد فرنسيس أن الإمارات قيادة وشعبا متسامحون، بل عاين وشاهد ولمس وعاش، واعتبر في نهاية المطاف أن ما يجري على أرض الإمارات هو رسالة إيمانية وإنسانية، رسالة تقوم عليها قيادة تشربت التسامح والتصالح وإكرام الغير والغريب تحديداً على أرضها من الأب المؤسس زايد الخير.
حين يصف البابا فرنسيس الإمارات بأنها الوجه الثاني لعملة التسامح، فإننا إزاء تعبير له أهميته وثقله الاستراتيجي في أوروبا وبقية العالم؛ حيث الإسلاموفوبيا تضرب من جراء الإرث التاريخي مرة، وكردات فعل على الإرهاب المعاصر الذي تعرض له الأوروبيون مرة أخرى. والتعبير كذلك يفتح أعين الأوروبيين وبقية العالم الغربي على رقعة جغرافية إسلامية لكنها تحمل إسلاماً يؤمن بأن الإرادة الربانية جعلت الناس شعوباً وقبائل بهدف التعارف والتواصل، ولإقامة الجسور لا بناء الجدران، وإن ربك لو شاء لجعل الناس أمة واحدة.
الزيارة التي قام بها الوفد الدبلوماسي الإماراتي إلى الفاتيكان واللقاءات المختلفة مع بقية أركان الكوريا الرومانية من أصحاب المسؤوليات تجاه الشرق والعالم الإسلامي تبين النوايا الإماراتية لجعل زيارة البابا ووثيقة الأخوة الإنسانية مسار ومسيرة جديدة للإنسانية، وليس زيارة بروتوكولية أو دعائية فقط للحظة ثم يختفي وميضها.
يمكن القول إن شهادة بابا روما للامارات سوف تبقى إرثاً قوية ومنطلقاً أدبياً رائعاً في قادم الأيام، وبما يقوي من أواصر الصلة بين الطرفين من أجل تعميق الاحترام المتبادل، وترسيخ الحوار بين اتباع الأديان والعمل من أجل تعزيز السلم ونشر السلام والأخوة بين جميع البشر، كما يأتي اللقاء ليؤكد حرص الإمارات على الاستمرار في تعزيز علاقات التعاون مع دولة الفاتيكان، انطلاقاً من نهجها القائم على نشر وترسيخ قيم التسامح والتآلف والتعايش المشترك.
لقد غادر فرنسيس الإمارات منذ أكثر من شهرين، ولكنه حملها في قلبه الطيب مرة وإلى الأبد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة