الانتخابات المحلية الأخيرة في بريطانيا أطلقت السباق نحو المنزل رقم 10 في لندن.
بشرت بحزب العمال المعارض، ولكنها أبقت الباب مواربا أمام مفاجآت غير متوقعة، خاصة وأن حزب المحافظين الحاكم يمتلك أفضلية القدرة على اتخاذ القرارات وسن القوانين التي قد تغير التوقعات جذريا أو جزئيا في الاستحقاق القادم.
جميع استطلاعات الرأي تتنبأ بفوز العمال على المحافظين في الانتخابات البرلمانية للعام 2024، انطلاقا من نجاح المعارضة في انتزاع مئات المقاعد البلدية من الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية التي جرت مطلع الشهر الجاري، ولكنها لا ترى فيه السبب الوحيد لاحتمال وصول حكومة عمالية إلى السلطة عام 2025.
من أبرز مواطن قوة العمال اليوم هو توافقهم على قيادة كير ستارمر. قد لا يكون محط إجماع كأفضل الشخصيات التي قد تتصدر المشهد، ولكن لا يدور سجال بين صفوف المعارضة من أجل استبداله، أو البحث عن بديل له أكثر قبولا من الشارع، وأكثر توافقا لدى القاعدة الشعبية التي تضم نحو نصف مليون عضو في الحزب.
عكس ذلك يحدث في الحزب الحاكم، فرئيس الوزراء ريشي سوناك، الذي جاء محصلة صراع بين أجنحة الحزب، وليس نتيجة انتخاب شعبي، أو اقتراع أعضائه البالغ عددهم نحو 200 ألف، لم يحظ حتى اليوم بتوافق المحافظين لخوض السباق في الانتخابات العامة المقبلة، رغم أن الوقت المتبقي لها ليس طويلا بكل المقاييس.
ثمة نواب يسبحون في فلك رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس وسلفها بوريس جونسون، لا يرغبون كثيرا باستمرار قيادة سوناك. هؤلاء لن يتمكنوا من إعادة جونسون أو تراس لزعامة المحافظين، ولكنهم قد يدفعون ببديل ثالث يكون محط إجماع القاعدة الشعبية، وصاحب تاريخ يخلو تماما من أي تجاوزات أو مخالفة للقوانين.
هناك من يعتقد أن خروج جونسون من السلطة كان بمكيدة سياسية داخلية، وقد ألحق ضررا كبيرا بالحزب الحاكم وحرمه من فرصة الفوز في الانتخابات المقبلة، أما استرداد هذه الفرصة فلن يكون برأيهم، إلا باستدعاء شخصية كاريزمية تتفوق على من يتصدرون المشهد اليوم بين المحافظين، وأولهم رئيس الحكومة الحالية.
من وجهة نظر نواب آخرين، بينهم مؤيدون لجونسون، يعتبر استبدال سوناك ضربة قاضية للحزب الحاكم. وبدلا من هذه المساعي التي تزيد المحافظين ضعفا، وتقلص حظوظ فوزهم في الانتخابات البرلمانية المقبلة، يجب مساعدة رئيس الحكومة على اتخاذ القرارات، وسن التشريعات التي ترفع من أسهمه شعبيا وحزبيا.
ما يقترحه الرافضون لاستبدال سوناك، هو الأمل اليتيم المتبقي للمحافظين، فإن تمكن رئيس الحكومة من تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية كبيرة خلال الأشهر الأخيرة قبل الانتخابات البرلمانية، فذلك يبعث الروح في الشعبية المترهلة للحزب الحاكم، ويدخله غمار السباق إلى المنزل رقم 10 بأمل أكبر في الفوز على العمال.
حتى لو خسر المحافظون، سيأتي التوحد خلف سوناك اليوم بنتائج إيجابية على المدى الطويل، فهو قد يجعل فوز حزب العمال ضعيفا، ولا يستند على أكثرية برلمانية مطلقة تمكنه من قيادة البلاد بمفرده لخمس سنوات قادمة، ومن جهة أخرى سيكبل الحكومة العمالية المقبلة بقرارات محافظة كثيرة، تضعف سلطتها وتحد من أدائها.
تتوقع استطلاعات الرأي الحديثة هذه النتيجة، فتقول إن العمال لن يحققوا النصر الذي يحلمون به منذ عهد توني بلير قبل 15 عاما، سيتقدمون على خصومهم المحافظين بتسع نقاط فقط. أي أنهم سيحصدون 35% من أصوات الناخبين، في مقابل 26% ستعود إلى الحزب الحاكم، و20% ستذهب إلى الليبرالي الديمقراطي.
إن وقع ذلك، فلن يكون أمام العمال سوى الحكومة الائتلافية. صحيح أن التجارب التي عرفتها البلاد في هذا النوع من الحكومات غير مشجعة، ولكن كير ستارمر لن يفاضل بين هذا الخيار والبقاء خارج السلطة لخمسة أعوام أخرى وربما أكثر.. لن يرفض أكثرية برلمانية متواضعة تجمعه مع أي حزب لإزاحة المحافظين عن السلطة.
ما تتوقعه استطلاعات الرأي اليوم قد يتغير حتى الانتخابات المقبلة، والأحزاب تعلم جيدا أن صناديق الاقتراع لا تتطابق نتائجها مع مخرجات الاستبيانات التي تشمل عينات بحث صغيرة مقارنة بالدولة ككل، ثمة هامش دائما للخطأ في التنبؤات والقراءات الأولية، يتراوح بين كبير جدا وصغير إلى حدود لا تذكر، ولكن كليهما مقلق.
بعد كل ما تحقق من صعود في شعبية الحزب خلال السنوات الثلاث الماضية، لابد أن يخشى العمال من تقلب الأحوال وتبدل المزاج العام حتى الانتخابات، لذلك هم يدرسون خطواتهم جيدا، ويحاولون استمالة كل فئات المجتمع من اليسار واليمين، شرط ألا يضطرهم هذا لتبني مواقف تسجل عليهم عند فتح صناديق الاقتراع.
يتحدث العمال اليوم عن توسيع رقعة التصويت في الانتخابات البرلمانية ليشمل الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة، والبريطانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 18 عاما. مجموع هؤلاء يزيد على 6 ملايين شخص، ونجاح المعارضة في ضمهم للقوائم الانتخابية يعني ضمان أصواتهم في الاستحقاق المقبل.
المحافظون يعتبرون تصويت الأوروبيين تدخلا في شؤون المملكة المتحدة، ومحاولة من كير ستارمر للتمهيد نحو العودة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ولأن المحافظين يملكون أكثرية برلمانية مطلقة، فسيعارضون إصدار أي تشريع جديد يسمح للعمال بتوسيع قوائم التصويت، وكسب مزيد من الأوراق الانتخابية ضدهم.
وبغض النظر عن نتائج السجال بين الحزبين الرئيسيين بشأن حقوق الأوروبيين المقيمين في الاقتراع، لابد من التوقف عند حقيقتين أساسيتين، الأولى هي أن "بريكست" لن يكون المعيار الأساسي في الانتخابات المقبلة، والثانية هي أن ستارمر يراهن على الطبقة العاملة وليست المتوسطة، لتصدر المشهد السياسي ثانية.
على ضوء هذا، ستشهد الانتخابات البرلمانية المقبلة جولة ساخنة من الصراع التقليدي بين العمال الفقراء، وأصحاب الدخول المتوسطة والمرتفعة في بريطانيا. المعارضة تعد أنصارها بالكثير إن وصلت إلى السلطة، والمحافظون يسابقون الزمن لإثبات أن بقاءهم في الحكم لا زال أولوية لكل من صوت لهم في 2019.
في الواقع، ثمة عمل كثير ينتظر الحزبين على مدار الأشهر العشرة المقبلة.
وكما يقول رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ المملكة المتحدة ونستون تشرشل: " ليس المهم أن نبذل قصارى جهدنا، بل المهم أن نبذل ما هو مطلوب منا".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة