قمة العرب في جدة، قمة جدة العربية.. للوهلة الأولى لا يبدو ثمة فرق بين التوصيفين رغم الصبغة الجدلية التي تحكم بينهما.
عدد من الخيوط المتشابكة تتقاطع فيهما ويغذي بعضها الآخر في بعض المسارات، وتتماهى مع بعضها الآخر في سياقات أخرى.
قمة جدة العربية لم يكن لها أن تحوز هذا الاهتمام الدولي، وتُحدثَ حالة من الاستقطاب الواسع، لو لم تخترق الدبلوماسية العربية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة حصون عدد من الممنوعات البينية بين بعض دولها، وتستهدي بلغة المصالح العربية المشتركة فعلاً لا قولاً.
سوريا بوصفها البلد العربي الجريح؛ كانت الأكثر تحديا لمطبخ السياسة العربية بسبب تشعبات قضيتها وتعقيداتها وتناقضات مصالح اللاعبين بشأنها إقليميا ودوليا.
قراءات سياسية عميقة وموضوعية لواقع التحولات الدولية التي أفرزتها الحرب الأوكرانية الروسية وما تنذر به من تغيرات في مجمل العلاقات الدولية؛ أنتجت مقاربات عربية للتعاطي مع مجمل المشهد العربي والإقليمي والدولي الناشئ.
الملف السوري، بكل أثقاله وحمولاته الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، تم طرحه على الطاولة فتبين للعرب أن سبيل الحل سالك، وأن الرهان على لغة المصالح خيارٌ مجدٍ للجانبين العربي والسوري، وأن إطفاء الحرائق في بعض أركان البيت العربي بات مطلباً ملحّا.
تحول الملف السوري من عقدة كأداء أمام العرب إبان الأحداث، إلى حقنة إنعاش لمفهوم العمل العربي المشترك من ناحية، وإلى تجسيد الأمنيات كواقع ملموس لسوريا دولة وشعبا من ناحية أخر.
الحديث بصيغة إطلاقية عن وحدة الرؤية والموقف العربي نحو سوريا لا يتسق مع منطق ومقتضيات التوافق الذي ابتكرته الدبلوماسية العربية لتجاوز المطبات والمفخخات الكثيرة على هذا الدرب.
كيف أمكن لصيغة أو مبدأ التوافق لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية ورسم خارطة طريق للخلاص السوري برمته أن يتبلور؟.
شكلت التراكمية في المواقف العربية سبيلا ناجعا في هذا المسار منذ أن دشنته الإمارات العربية بإعلاء صوتها قبل 5 سنوات ونيف بأنه حان وقت وضع حد للمأساة السورية، وترجمت رؤيتها عمليا في أكثر من مناسبة.
جاء زلزال فبراير/ شباط الماضي المدمر ليكون سببا لتفجر العواطف فتقاطعت مع إرادة سياسية شكلت رافعة عربية لمشروع متكامل متدرج الخطوات من أجل إنهاض سوريا من عثراتها وتغيير مسارها الذي كبلها أكثر من 12 سنة.
في الآونة الأخيرة، كانت جدة الحاضنة السياسية التي التقت فيها جميع التصورات والرؤى العربية للحل في سوريا، وكذا الأمر بالنسبة للسودان، وفي جميع الحالات أنضجت الإرادة العربية توافقات واتفاقات بحيث تكون النتيجة بصمةً عربية موحدة المداد والهدف.
قضايا البيت العربي في جدة ليست جديدة على البحث وعلى التدارس، لكن ما يميز قمة جدة ثلاثة مستجدات عربية ومثلها من الاستحقاقات أيضا.
المستجد الأول تجلى في آليات إعداد ملفاتها الأكثر سخونة، وتعبيد طرق تبريدها، سوريا والسودان مثالان، أما المستجد الثاني فبدا منعكسه في ورشات العمل المتخصصة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين العرب، ليكون ثالث المستجدات متمثلا برهان المملكة العربية السعودية وبالتنسيق مع العرب على بلورة إرادة عربية مستقلة في خياراتها السياسية والسيادية والاقتصادية والأمنية.
هذه المستجدات التي تبلورت ملامحها في مرحلة الإعداد لقمة جدة أوحت بأن ثمة استحقاقات تترتب عليها ولا بد من التعاطي معها والاستثمار فيها، أولها الاستعداد لجعل قمة جدة العربية منطلقا لمشروع عربي متكامل البنى، موحد المسارات، مستقل الخيارات، مشروعٍ قوامه المصالح، وسبيله العمل لا الشعارات، وغاياته صيانة الحاضر والمستقبل، وهذا يتطلب تحقيق استحقاق ثانٍ لا يقل أهمية يتمحور حول اعتماد مبدأ التوافق على أسس المشروع العربي المنشود ليكون بندا ثابتا في نظام عمل الجامعة العربية بعد أن قدمت الرباعية العربية براهين كثيرة في الملف السوري على حيوية هذا المبدأ، وعندها يكون الاستحقاق الثالث الذي لا مفر منه، أقل صعوبة وتعقيدا حين تواجه وحدةُ الموقف العربي صعوباتٍ من قبل قوى إقليمية ودولية لا ترغب؛ أو لا تقبل بوجود مثل هذه الخيارات العربية المستقلة.
نعم إنها قمة العرب في جدة بعد أن وفر استحقاق قمة جدة العربية، كونها استحقاقاً سنوياً، جميع شروط نجاحها اللوجستية، زمانا ومكانا وشكلا.
هي قمة العرب في جدة؛ بعد أن برمجت أولوياتِها لتكون أهدافاً مشتركة للجميع .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة