رجة ارتدادية.. "رغيف" العرب بين فكي روسيا وأوكرانيا
زلزال يتراءى بأفق الأزمة الأوكرانية المتصاعدة ينذر بأن رجته الارتدادية ستتجاوز حدود أوروبا لتهدد "رغيف" سكان على بعد آلاف الأميال.
أزمة بدأت بتحشيد روسي على حدود كييف عززته موسكو لاحقا بقوات يخشى أنها تزحف حاليا باتجاه الدولة السوفيتية السابقة، فيما فتح قرار الرئيس فلاديمير بوتين الاعتراف بـ"استقلال" منطقتين تخضعان لسيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو في دونيستك ولوهانسك شرقي أوكرانيا، فصلا جديدا في التوتر الروسي الغربي المتواصل منذ أشهر.
فصل جديد تتقاطع فيه المواقف الدولية عند التنديد بالقرار الروسي، ما يفاقم حالة اصطفاف لم تختبرها البشرية منذ الحرب الباردة، والأسوأ أنه يرفع من فرص تحول الصراع إلى مواجهة عسكرية شاملة.
مشهد ضبابي تلبده غيوم كثيفة يخشى مراقبون أن تدفعها الرياح العاتية نحو المنطقة العربية، في تداعيات تبدو بديهية للتوتر الحاصل على الحدود الأوكرانية الروسية، وارتدادات ذلك على القارة العجوز ومنها على العرب.
ارتدادات ستكون في شكل مخاطر محتملة قد تحملها الأزمة الأوكرانية لمنطقة مثقلة أصلا بعواصفها، في بعد ثالث ينذر بفوضى جيوسياسية واقتصادية عارمة قد تحكم مفاصل العالم بالفترة المقبلة.
رغيف العرب
نظرا للبعد الجغرافي، قد لا يعني الكثير من الدول العربية من التوتر المتصاعد بين موسكو والغرب سوى الأثر المترتب على إمدادات المنطقة العربية من المواد الزراعية خصوصا القمح، وعلى أسعار المواد الغذائية.
بعض التقديرات تشير إلى أن روسيا تزود العالم العربي بأكثر من 60 بالمئة من واردات القمح، ما يعني أن رغيف الخبز العربي عالق حاليا بين فكي موسكو وأوكرانيا، وسيكون مهددا بشكل جدي في وقت بدأت فيه دول بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا.
وفي أفضل الأحوال، فإن تطورات الأزمة ستقود نحو ارتفاع سعر الخبز بالعالم العربي، في منحى تصاعدي من شأنه أن يرفع معه مستويات الفقر والمجاعة إلى حد قياسي.
محللة شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كيلي بيتيلو، ترى أنه سيكون للتصعيد في أوكرانيا "عواقب وخيمة للغاية على الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، المنطقة التي استحوذت على 40 بالمئة من صادرات أوكرانيا من الذرة والقمح لعام 2021.
وفي حديثها لـ"بي بي سي"، استشهدت بيتيلو بتداعيات الأحداث التي شهدتها أوكرانيا في عام 2014 حين ضمت روسيا جزيرة شبه القرم بشكل أحادي، والارتفاع اللافت لأسعار المواد الغذائية، في تفاعل بديهي عادة ما يستهدف سلاسل التوريد خلال فترات التوتر.
لكن ما يزيد الأمر سوءا، وفق الخبيرة، هو أن الارتفاع المتوقع في الأسعار جراء الأزمة يأتي في وقت بلغت فيه أسعار المواد الغذائية مستويات تاريخية من الارتفاع، ما يهدد بمشهد بالغ الخطورة.
ومع أنه يمكن اللجوء إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا كبديل، إلا أن مسارا مماثلا سيكون نظريا أكثر منه عمليا وسيكون باهظا إلى درجة يمكن أن يجبر الدول على العدول عنه.
توازنات جيوسياسية
توازنات جيوسياسية دقيقة يفرضها الوضع الراهن وتكهنات المستقبل، حيث ستجد الدول العربية نفسها عالقة في مقاربة بالغة الصعوبة، وهي الموازنة بين علاقاتها مع الدول الغربية من جهة، وعلاقاتها مع روسيا التي تربطها مصالح عديدة مع عدد من الدول العربية من جهة أخرى.
مقاربة تفرضها المعطيات التي يفرزها واقع صعب سليل الأزمة بين موسكو وكييف والغرب، ما قد يقود نحو نظام عالمي جديد بمعايير قد تعيد النظر في ترتيبات نهاية الحرب الباردة وتخلق نوعا من التوازنات الجديدة لذات اللاعبين الأساسيين والثانويين.
فالمؤكد وسط التقلبات والاضطرابات الراهنة أن الدول العربية ستواجه صعوبات في تعويض النقص الذي قد يحدثه تراجع أو وقف إمدادت الطاقة الروسية إلى أوروبا، لكن الدور الذي قد تلعبه هذه الدول في سد جزء من النقص والحفاظ على استقرار أسعار النفط عالميا، قد يمنحها مساحة للتموقع والنفوذ.
لكن، وفي خضم التداخل الرهيب للمعطيات بين الموجود والمتوقع، تبادل خبراء مخاوف حقيقية من أن يساهم اندلاع نزاع مسلح بأوكرانيا في ترسيخ الاختلافات حول ملفات شائكة بالشرق الأوسط مثل ليبيا وسوريا، ما من شأنه أن يدفع نحو تراجع فرص تحقيق أي تقدم يضمن الاستقرار بهذه الدول.
الأزمة الإنسانية
في ارتدادات غير مباشرة، يخشى مراقبون أن يقود اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى تحويل مسار المساعدات الإنسانية بعيدا عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي أن العالم سيكون أكثر انشغالا بأزمة جديدة تضرب شرقي أوروبا، وبالتالي فإن الأولوية في المساعدات ستمنح للقارة العجوز.
وبالنظر إلى التوقيت "السيئ" الذي تندلع فيه الأزمة، والذي يأتي وسط وباء قاتل يضرب العالم، وتغير المناخ، فإن التوليفة ستؤدي نحو زيادة تعقيد إنتاج المساعدات الإنسانية وإمداداتها إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع ما يعنيه كل ذلك من زيادة الضغط على دول المنطقة التي تستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين، والجزئية الأخيرة قد تقود بدورها نحو مزيد من عدم الاستقرار وربما إعادة تدوير الصراعات والأزمات.
معطيات تنذر بإنتاج صورة معقدة من التداعيات التي تتداخل فيها الملفات المحلية والصراعات الإقليمية مع ارتدادات الأزمة الأوكرانية، والنتيجة الحتمية ستكون في شكل أزمات جديدة ستدفع بدورها نحو تدفقات أخرى من اللاجئين نحو أوروبا، وهكذا يجد العالم نفسه عالقا على جنبات كرة من اللهب.
aXA6IDE4LjExNy4xODguMTA1IA== جزيرة ام اند امز