تحلية المياه في الوطن العربي.. تجارب رائدة
خاضت عدة دول تجربة تحلية مياه البحر، لتوفير المياه لشعوبها، بعضها حقق نجاحا كبيرا، ونجح في التغلب على أزمة المياه، في مقدمتها الإمارات.
ظلت مشكلة الموارد المائية في العالم تطرح تساؤلات عديدة بشأن المستقبل الذي ستعيشه الأجيال القادمة إذا لم يتم توفير المياه العذبة الكافية. فمع الزيادة السكانية المطردة وارتفاع مستوى المعيشة ازداد استهلاك الماء، الأمر الذي دفع بالمنحنى التصاعدي لمعدل الطلب المائي العالمي، الذي من المتوقع أن يستمر في الارتفاع لعقود طويلة قادمة، ويعتقد العديد من العلماء والمختصين في الاستشراف أن القرن الحالي سيشهد صراعات عنيفة حول استغلال مصادر المياه على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
وبالنظر إلى الأوضاع المائية في المنطقة العربية، نجد أن أقطار الوطن العربي تقع في حزام المناطق القاحلة أو شبه القاحلة، وهي بذلك تعتبر من البلدان الأكثر فقراً في الموارد المائية الصالحة للاستخدام، هذا فضلاً عن الأوضاع الجغرافية والسياسية الحرجة في منطقة الشرق الأوسط، فالموارد المائية على قلتها تتنازعها الدول المجاورة. بالإضافة لوجود عدد من التحديات الأخرى إزاء الأمن المائي للمنطقة، أبرزها انخفاض نصيب الفرد العربي، الذي لا يتجاوز 1057 م3/ العام، وهو أقل بكثير من الصعيد العالمي الذي يصل إلى 7600 م/3 العام. وتدهور نوعية المياه نظراً لاستنزاف أحواض المياه الجوفية في أغلب بلدان المنطقة، وأخيراً تلوث المياه العربية بسبب ضعف تقنيات حماية البيئة من آثار التلوث الصناعي، مما يؤدي إلى فقدان كميات كبيرة من الموارد المائية الجوفية والسطحية.
ومن ثم لم تتوان جهود الخبراء والمؤسسات الدولية في البحث عن بدائل إضافية قادرة على توفير المزيد من العرض المائي في دول الفقر المائي، لنجد أن بديل تحلية المياه يعد من أفضل البدائل والأكثر موائمة لتوفير المياه العذبة، ومما سبق يتضح أن الدول العربية هي الأكثر حاجة إلى تحلية المياه، حيث يعتبر اللجوء إلى تحلية المياه المالحة مخرجا مهما للمأزق المائي العربي وخيارا أساسياً لسد العجز المائي في المنطقة.
- أبرز تقنيات تحلية مياه البحر
عرف الإنسان تحلية مياه البحر من قديم الأزل، وتطورت لما هي عليه الآن بعد سلسة من المراحل التاريخية المهمة، وتزايد دورها بشكل ملحوظ في مطلع الألفية الثالثة، وتٌعرف تحلية مياه البحر بأنها عملية لنزع الأملاح ومواد منحلة أخرى سواء من المياه قليلة الملوحة أو مياه البحر، وذلك لفصل الماء العذب من الأملاح الذائبة في الماء الملح.
وقد شهد سوق التحلية العالمي نموا مطردا عكسته زيادة الطاقة الإنتاجية لمحطات التحلية المنتشرة حول العالم، الأمر الذي يرجع إلى تنوع وتطور تقنيات التحلية التي ساعدت العديد من دول العالم في نجاح توطين صناعة تحلية مياه البحر على أراضيها. وتنقسم هذه التقنيات إلى مجموعتين أساسيتين يتم تسويقهما عالميا منذ ستينيات القرن العشرين وهما:
- أولاً: التقنيات الحرارية:
تتمثل تقنيات التحلية الحرارية الرئيسية في: التحلية الومضية متعددة المراحل، والتبخير متعدد التأثير، والتضاغط الحراري. وتعتمد هذه التقنيات على التبخير باستخدام الحرارة ولا تتطلب تطورا تكنولوجيا كبيرا، وتقام في الغالب في معامل التوليد المصاحب، حيث يجري توليد الطاقة الكهربائية متزامناً مع إنتاج الماء، وتنتشر هذه التقنيات بكثافة في منطقة الخليج العربي، ويكون الماء المُحلى الناتج عنها ماء نقيا جداً.
ثانياً: التقنيات الغشائية
تعتمد هذه التقنيات على أغشية لفصل الأملاح عن الماء داخل حجرة باستخدام غشاء شبه نفاذ، حيث إن الماء العذب ينفذ منسابًا عبر الغشاء إلى الماء المالح. وإذا ما طبق ضغط كاف على الماء المالح ينعكس هذا الانسياب الطبيعي للماء بحيث يعصر الماء العذب من الماء المالح نافذًا خلال الغشاء تاركًا الملح وراءه، وتعد هذه التقنية الأكثر جاذبية لأنه يمكن تشغيلها عن طريق درجة حرارة الغرفة، وتعد أشهر أنواع هذه التقنيات انتشارا على المستوى العالمي هما التناضح العكسي المستخدم في تحليه ماء البحر، والديلزة الكهربائية التي يتم الاعتماد عليها في تحلية المياه قليلة الملوحة مثل مياه الآبار.
لم يتوقف سعى القائمين على هذه الصناعة عن البحث عن تقنيات جديدة لتحلية مياه البحر تكون قادرة على تحقيق منافع أكثر، خاصة مع تزايد الضغوط الناتجة عن استخدام التقنيات التجارية السابق ذكرها فيما يتعلق بالبيئة، حيث اتجهت أنظار الباحثين نحو الطاقة المتجددة ودمجها بالتقنيات التجارية، مما قد يمهد لبداية عصر جديد من تكنولوجيات التحلية.
- تجارب عربية رائدة
خاضت العديد من الدول تجربة تحلية مياه البحر من قبل لتوفير المياه لشعوبها، بعضها حقق نجاحا كبيرا، ونجح في التغلب على أزمة المياه. ومن بين الدول العشر الأولى عالميا في إنتاج المياه المحلاة، تحل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة في المقدمة، وهذا يوضح أن سوق التحلية في الوطن العربي هو أكبر سوق إقليمي في العالم ويستحوذ على حوالي 50% من سوق التحلية العالمي، وتأتي دول الخليج العربي في مقدمة هذه الدول، حيث أنفقت دول الخليج العربي مجتمعة حوالي 33 مليار يورو من أجل إنشاء 550 محطة للتحلية خلال العشرين سنة الأخيرة.
- تجربة الإمارات العربية المتحدة:
أولت دولة الإمارات العربية المتحدة اهتماما كبيرا بمشروعات تحلية مياه البحر لسد النقص في المخزون المائي، وساعدها على ذلك موقعها المطل على مسطحين مائيين هما: الخليج العربي وخليج عمان. إذ تنتج الإمارات حالياً ما يعادل 14% من إجمالي الإنتاج العالمي من المياه المحلاة.
ويصل عدد محطات التحلية إلى 266 محطة في مختلف أنحاء الإمارات، بالإضافة إلى عدد من المحطات قيد الإنشاء ومحطات أخرى يجري التخطيط لإنشائها في المستقبل، وتلغ كمية مياه التحلية المستخدمة في الإمارات نحو 2,342 مليون متر مكعب، ومن المتوقع أن تصل إلى ما يقرب من 5,806 ملايين متر مكعب بحلول عام 2025.
تمتلك دولة الإمارات عدداً من مشاريع التحلية التي تعد الأكبر على المستوى العالمي، ومنها على سبيل المثال: محطة الفجيرة لتحلية المياه وتوليد الطاقة التي تعتبر أكبر محطة تحلية بتقنية التناضح العكسي في العالم، هذا بالإضافة إلى محطات التحلية باستخدام الطاقة الشمسية، حيث يوجد في إمارة أبو ظبي ثلاث محطات تحلية تجريبية تعمل بالطاقة الشمسية، تنتج إحداها 500 متر مكعب في اليوم من تحلية مياه البحر، بينما تنتج الثانية 80 متراً مكعباً يومياً من تحلية مياه جوفية مختلطة، والأخيرة في منطقة أم الزمول، وتنتج 68.2 متر مكعب في اليوم، حيث تقوم بتحلية مياه جوفية شديدة الملوحة تزيد ملوحتها على مياه البحر.
- تجربة المملكة العربية السعودية:
حظي قطاع المياه في المملكة العربية السعودية باهتمام بالغ، إذ شهدت صناعة التحلية الكثير من الإنجازات على كافة الأصعدة، فاحتلت موقع الصدارة والريادة. فقد عرفت السعودية تحلية المياه منذ أكثر من 80 عاماً من خلال عملية التكثيف لتقطير مياه البحر، وذلك بالتحديد عام 1928 عندما تم إنشاء وحدتي تكثيف لتقطير مياه البحر الأحمر باسم "الكنداسة" لإمداد جدة بالمزيد من مياه الشرب. ثم أنشئت المراحل الأولى للتحلية في كل من محافظتي الوجه وضباء الواقعتين على ساحل البحر الأحمر، وتلتها محطة التحلية في محافظة جدة المرحلة الأولى بطاقة إنتاجية قدرها 5 ملايين جالون ماء يومياً. وتواصلت جهود التوسع والتطور في صناعة تحلية المياه المالحة بعد صدور المرسوم الملكي بإنشاء المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة عام 1974.
وتعد المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة مؤسسة حكومية سعودية تعنى بتحلية مياه البحر وإنتاج الطاقة الكهربائية، وإيصال المياه المحلاة المنتجة لمختلف مناطق المملكة العربية السعودية، لتباشر أعمالها بإنشاء محطات أحادية الغرض لإنتاج المياه المحلاة فقط أو ثنائية الغرض لإنتاج الماء والكهرباء.
وقد بلغت عدد محطات المؤسسة 28 محطة موزعة على 17 موقعاً على الساحلين الشرقي والغربي من المملكة، تنتج 4.6 مليون متر مكعب يومياً، ويمثل إنتاج المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة أكثر من 69% من إنتاج مياه التحلية في المملكة، والبقية تنتج من خلال محطات القطاع الخاص، ويبلغ إنتاج المملكة من المياه المحلاة أكثر من 6.6 مليون متر مكعب يومياً، وهذه الكمية تمثل ما نسبته 54% خليجياً، كما تبلغ نسبة إنتاج المملكة من المياه المحلاة عالمياً 22.2%.
- تحديات تواجه تحلية المياه
وأخيرا، فعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي أولته الشركات المنتجة والمصنعة لمختلف تقنيات التحلية، التي كان لها الفضل الكبير في إرساء دعائم هذه الصناعة في نحو 150 دولة عبر العالم، ومن الأهمية الإستراتيجية لهذا البديل غير التقليدي، إلا أن هذه الصناعة لا تزال تواجه مجموعة من التتحديات من أهمها:
الطاقة المستخدمة: ارتفاع مستوى الطاقة التي يتم استهلاكها في عملية إنتاج المياه الصالحة للشرب التي تعادل عشرة أضعاف مقارنة بعملية إنتاج المياه العذبة السطحية.
الآثار البيئية: تفرض عملية تحلية المياه تحديات بيئية كبيرة، حيث تتسرب المحاليل الملحية والمياه المستخدمة في عمليات التبريد صوب البحر لتزيد بدورها من نسبة ملوحته، مما يهدد تنوع الأحياء البحرية، إضافة إلى تغيير درجة حرارة النظام البيئي المحيط بها.
ارتفاع التكلفة: لا تزال عملية التحلية مكلفة جدا، فوفقا لبعض التقديرات يمكن أن يتكلف إنتاج 1 متر مكعب من المياه المحلاة من 70 سنتا إلى 1 دولار، في حين أن نفس الكمية من المياه الجوفية المعالجة تكلف 15 سنتا إلى 40 سنتا.