هل المجتمع الدولي بحاجة إلى تشريع جديد بخصوص الجرائم السيبرانية؟
يدور التجاذب بين القوى الكبرى بشأن قرار للأمم المتحدة في جزء منه حول حدود حاجة المجتمع الدولي لتشريع جديد لتقنين الفضاء السيبراني
لا تزال أروقة الأمم المتحدة ساحة مهمة جدا للتنافس واختبار توازنات القوى فيما بين الفاعلين الدوليين، لا سيما الدول الكبرى المهيمنة على السياسة الدولية.
ولم يكن مستغربا أن تشهد الجمعية العامة للأمم المتحدة أحد أحدث فصول هذا التنافس بين الدول الغربية والولايات المتحدة من جانب في مواجهة روسيا والصين وعدد من الدول الأخرى في جانب آخر، وذلك حول ملف السيطرة على الفضاء الافتراضي والأمن السيبراني.
فبنهاية عام 2019 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع قرار بخصوص الجرائم السيبرانية، إلا أن نمط التصويت بخصوص هذا القرار وردود الفعل الدولية بصدده تضع الكثير من علامات الاستفهام حول فرص تفعيل هذا القرار ودخوله حيز النفاذ.
مضمون القرار ونمط التصويت عليه: دلالات متباينة
يعد هذا القرار إيذانا ببدء عملية صياغة معاهدة دولية جديدة لمكافحة جرائم الإنترنت أو ما يعرف بـ"الجريمة السيبرانية"؛ حيث ينشئ القرار لجنة خبراء تمثل جميع مناطق العالم لوضع اتفاقية دولية شاملة لمكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض إجرامية من أجل مكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأهداف إرهابية أو تحض على العنف والكراهية.
وينص القرار كذلك على أن تجتمع هذه اللجنة لمدة 3 أيام في أغسطس/آب 2020 في نيويورك للاتفاق على الخطوط العريضة لأنشطتها وعلى خطة وإجراءات عملها في المستقبل، كما تطلب الجمعية العامة من الأمين العام للأمم المتحدة تخصيص الموارد اللازمة لتنظيم عمل اللجنة.
أما فيما يخص نتيجة التصويت على القرار، فهناك رؤيتان متباينتان، تنطلق الأولى من أن الموافقة على مشروع القرار من قبل المنظمة العالمية المكونة من 193 عضوا، جاءت بأغلبية 79 صوتا مقابل رفض 60 صوتا، وامتناع 33 عن التصويت، وهو ما يعد نجاحا كبيرا للدبلوماسية الروسية التي تقدمت بهذه الوثيقة إلى الجمعية خلال العامين الماضيين، وفشلت في تمريرها، أما اليوم فقد تقدمت روسيا بمشروع القرار، وحشدت دعم حليفتها الصين لصالحه.
كما كان من بين رعاة مشروع القانون فنزويلا وميانمار وسوريا وإيران وكوريا الشمالية، ولعل هذا ما دفع الممثل الرئاسي الروسي الخاص للتعاون الدولي لأمن المعلومات أندريه كروتسكيخ للتأكيد على أنه قد ثبت أن المفهوم الروسي المتمثل في تعزيز وضمان أمن المعلومات والاتصالات صار يكتسب المزيد من الدعم، مشيرا إلى أن الشركاء الغربيين الذين صوتوا ضد القرار العام الماضي اختاروا الامتناع عن التصويت هذا العام.
على الجانب الآخر، قوبل القرار عند طرحه بمعارضة القوى الغربية المجموعات الحقوقية التي تخشى أن يفضي إلى تقييد الحريات، وقبل التصويت، أعربت فنلندا، بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة عن اعتراضها على الفكرة ودعت إلى التصويت ضدها.
ومن ثم يمكن القول إن نتيجة التصويت تشير لغياب 21 دولة من بين الدول الـ193 أعضاء الجمعية العامة عن القوى الداعمة لهذا القرار، كما أن وجود الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بين الدول المعترضة يقطع بفشل اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة المنشأة وفق هذا القرار.
وربما تزيد رجاحة هذا الرأي بالنظر للأطروحات التي تقدمها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية وبعض المجموعات الحقوقية في رفضها للقرار، إذ تؤكد تخوفها من أن تُستخدم لغة النص لتشريع قمع حرية التعبير والمعارضة السياسية، حيث إن بعض الدول اعتبرت انتقاد الحكومة أنه إجرامي.
واستخدمت ادعاءات مكافحة الجرائم الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني كغطاء للرقابة على الإنترنت، وهو ما يعارض مصالح واشنطن وفق ما أعلن مسؤولون أمريكيون من أن أي معاهدة أممية جديدة تسمح بوضع ضوابط على الإنترنت "تعارض مصالح الولايات المتحدة لأنها لا تتوافق مع الحريات الأساسية التي نرى أنها ضرورية في أنحاء العالم".
حدود حاجة المجتمع الدولي إلى تشريع جديد
يدور التجاذب بين القوى الكبرى بشأن القرار الجديد للأمم المتحدة في جزء منه حول حدود حاجة المجتمع الدولي لتشريع جديد لتقنين الفضاء السيبراني، وتحديد ملامح الجرائم السيبرانية، وذلك انطلاقا من وجود ميثاق بودابست لعام 2001 الذي يعد الوثيقة الدولية المرجعية للجرائم الإلكترونية، حيث يحض على التعاون الدولي لوضع حد لانتهاكات حقوق النشر والتأليف والاحتيال والاستغلال الجنسي للأطفال.
تجدر الإشارة إلى أنه قد تم توقيع اتفاقية بودابست بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2001 إيمانا من الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي والدول الأخرى الموقعة على هذه الاتفاقية بضرورة مواجهة الإجرام المعلوماتي، وتتكون من ثمانٍ وأربعين مادة موزعة على أربعة أبواب، تتضمن أهم أهدافها ومنطلقاتها ومرجعياتها السابقة، فضلا عن الإجراءات الواجب اتخاذها على المستوى الوطني، سواء من الناحية الموضوعية أو الإجرائية، وحدود التعاون الدولي لمحاربة هذا النوع من الجرائم.
ويدور الخلاف بمناسبة قرار الأمم المتحدة الجديد حول قدرة ميثاق بودابست على لعب دور عالمي في محاربة الجريمة الإلكترونية، حيث يرى مؤيدو الميثاق أنه على الرغم من المنشأ الأوروبي لمنظومة بودابست التي أول من شكلت اتفاقية يتبناها المجلس الأوروبي، فإن هذه الاتفاقية تتسم بالطابع الدولي، حيث يتاح الانضمام لها من قبل الدول غير الأوروبية، ومن بين الدول غير الأوروبية التي وقعت على هذه الاتفاقية نجد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وجنوب أفريقيا، ليصل عدد الدول الموقعة عليه إلى قرابة 55 دولة أخرى.
تأتي الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بطبيعة الحال على رأس هذا التوجه، فأعلن مسؤولون أمريكيون أن القرار الجديد للجمعية العامة سيقوض التعاون الدولي لمكافحة الجريمة السيبرانية في وقت يعد فيه التنسيق المعزز ضروريا، حيث لا يوجد إجماع بين الدول الأعضاء على الحاجة أو القيمة لصياغة معاهدة جديدة، ومن ثم فهو لن يؤدي إلا إلى خنق الجهود العالمية لمكافحة الجريمة السيبرانية.
وترى الولايات المتحدة أنه على العالم بدلا من ذلك توسيع الاتفاق القائم حاليا بشأن جرائم الإنترنت وميثاق بودابست 2001، فيما أعربت الكثير من المنظمات الحقوقية عن قلقها من أن أي ميثاق أممي جديد عن الجريمة الإلكترونية من شأنه أن يلغي ميثاق بودابست.
وعلى الجانب المعاكس، تذهب بعض الآراء إلى أن الجريمة الإلكترونية بطبيعتها شديدة الديناميكية والتغير، وأن العالم - شهد منذ 2001 تطورات عدة تفرض على المجتمع الدولي وضع أُطر وقواعد جديدة تحكم الاستخدام الآمن لشبكة الإنترنت، لا سيما في ظل التوسع في تداول المعلومات عبر الإنترنت، وانتشار التجارة الإلكترونية.
ومن ثم أضحت هناك ضرورة ملحة لإصدار تشريع دولي جديد، لمواجهة مرتكبي هذا النوع من الجرائم، بعد ثبوت فشل الاتفاقية الحالية أو ميثاق بودابست في مواجهتها.
من الجدير بالذكر أن ميثاق بودابست لا يحظى بإجماع دولي بين مختلف القوى الدولية، فعلى سبيل المثال تعارض روسيا هذا الميثاق، معتبرة أنه يمنح المحققين القدرة على الوصول إلى البيانات الحاسوبية عبر الحدود وهو أمر ينتهك السيادة الوطنية.
وتكمن شكوى موسكو الأساسية في أن المادة 32 (ب) من ميثاق بودابست تسمح لأصحاب البيانات بالسيطرة على استخدامها، بدلا من الحكومات.
وتريد موسكو بسط سيطرة الدولة على المعلومات. ومنذ سنوات تسعى روسيا لوضع إطار قانوني دولي بديل لمنظومة بودابست، وقدمت مقترحات عدة في هذا الصدد مثل مسودات لاتفاقيات أممية لتتعاون في مكافحة الجرائم المعلوماتية، تغطي حركة المرور على الإنترنت بواسطة السلطات، و"قواعد السلوك المتبعة" في الفضاء السيبراني، و"التحقيق المشترك" في الأنشطة الخبيثة.
وخلال السنوات الأخيرة نجحت روسيا في تأمين دعم بعض من حلفائها في هذا السياق، تبلور ذلك في موقف مجموعة دول البريكس، التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا.
وأقرت بلدان المجموعة في إعلان رسمي لها في سبتمبر 2017 بضرورة صياغة آلية تنظيمية ملزمة بشأن مكافحة الاستخدام الإجرامي لتقنيات المعلومات والاتصالات تحت رعاية الأمم المتحدة، معلنة دعمها للمبادرة الروسية الساعية لصياغة الميثاق الملزم الجديد.
ورغم قناعة البعض بأن المنظمة الأممية صارت على وشك صياغة اتفاقية جديدة في هذا السياق، فإن الواقع يشير إلى أن تطورات الأحداث السياسية تضع قيودا عدة على المقاربات الدولية في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال توقفت مجموعة العمل رفيعة المستوى عن الاجتماع بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2014، ثم انهارت مجموعة الخبراء الحكوميين حول أمن المعلومات برعاية الأمم المتحدة في يونيو 2017، بعد الفشل في التوصل إلى إجماع للآراء حول إجراءات تحسين أمن المعلومات.
ولا يزال من غير الممكن الحديث عن أرضية مشتركة بين القوى الفاعلة في المجتمع الدولي يمكن معها التنبؤ بقرب تبني ميثاق أممي ملزم في هذا الصدد.
aXA6IDE4LjExOC4zNy44NSA=
جزيرة ام اند امز