بعد 80 عاما.. نهاية العصر الذهبي لـ«التعددية الدولية»

مع إحياء الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، يتضح أن النظام العالمي قد تغير بشكل جذري حتى بات من الصعب العودة لعصره الذهبي.
ويمر النظام العالمي متعدد الأطراف الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية الآن بمرحلة تفكك عميق حتى أنه لم يعد قادرا على الاستمرار في صورته القديمة.
وفي ضوء المدرسة الواقعية فإن ما ينتظر العالم هو أشكال أكثر ضعفاً وهشاشة وأقل مثالية من التعاون متعدد الأطراف وذلك وفقا لما ذكرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية في تحليل لها.
وتعني التعددية الدولية في أبسط صورها، تنسيق سياسات بين ثلاث دول أو أكثر وهي ممارسة ستظل موجودة حتى لو على شكل تعاون محدود قصير الأجل.
لكن التعددية المؤسسية الواسعة التي تقوم على قواعد ثابتة وتلتزم بها دول كثيرة هي أمر فريد نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال النظام الذي ينهار حاليا.
ورغم أن عدد الدول والمنظمات المنضمة إلى هذا النظام في تزايد، فإن فعاليته في تنفيذ السياسات تراجعت، خاصة في مجالات السلام والأمن وحقوق الإنسان والمناخ حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة أقر بأن الثقة في النظام تتآكل وفي الوقت نفسه أبرزت السياسات الأحادية للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب هشاشة هذا النظام.
ووفقا للتحليل فإن فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى مطلع الألفية كانت "الذروة" الحقيقية للتعددية في ظل النظام أحادي القطبية الذي قادته الولايات المتحدة والذي وفر 3 عوامل رئيسية لنجاح التعددية.
العامل الأول هو القوة الأمريكية وهيمنة القطب الواحد وهو ما جعل الولايات المتحدة غير قلقة من "المكاسب النسبية" للمنافسين، وبالتالي سعت إلى مكاسب مطلقة لجميع الأطراف.
وبفضل هذا العامل تمكنت الولايات المتحدة من دعم التعاون متعدد الأطراف، مثل إدماج الصين في منظمة التجارة العالمية، وتفضيل الحلول المؤسسية طويلة الأجل على الأساليب القسرية قصيرة الأجل.
والعامل الثاني هو الطبيعة الليبرالية للولايات المتحدة التي آمنت بالديمقراطية، السوق الحرة، والتجارة الدولية ورغم تدخلاتها العسكرية وسعيها لتغيير أنظمة، فإنها لم تسعَ إلى الغزو المباشر أو فرض احتلال طويل، بل دعمت قيماً ليبرالية مكّنت النظام من كسب شرعية دولية واسعة بحسب "فورين بوليسي".
أما العامل الثالث والأخير فهو الشرعية المستمدة من الحرب الباردة التي شهدت تفوقا واضحا للنظام الغربي متعدد الأطراف مقارنة بالكتلة السوفياتية، ما عزز الإيمان بفاعلية هذا النموذج.
وعند انتهاء الحرب الباردة، كانت هناك رغبة دولية واسعة في الانضمام إلى هذا النظام الذي أثبت نجاحه في تحقيق النمو والاستقرار.
لكن اليوم، يختلف الوضع جذرياً حيث حلت الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والصين محل النظام الأحادي القطبية وهو ما أدى إلى ضعف التعددية لعدة أسباب مثل تركيز واشنطن وبكين على المكاسب النسبية حيث تنظر كل منهما إلى التعاون من زاوية من يستفيد أكثر على حساب الآخر وهو ما أسفر عن سياسات حمائية، مثل الرسوم الأمريكية على الصين إضافة إلى تراجع الثقة بالنظام التعددي.
وهناك أيضا لانقسامات الجيوسياسية المتزايدة والتي تتضح في الحرب الروسية الأوكرانية حيث تعرقل موسكو أي تحرك أممي بشأنها كما تحظى بدعم من بكين في مواجهة واشنطن في حين تحاول الهند موازنة علاقاتها مع روسيا لمنعها من الارتماء الكامل في أحضان الصين.
من الأسباب الأخرى لضعف التعددية هو صعود النزعة القومية سواء في الولايات المتحدة في عهد ترامب، أو في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصولا إلى الأحزاب القومية في أوروبا الأمر الذي يؤدي إلى تزايد الشكوك في جدوى النظام التعددي.
وحتى الصين، التي استفادت كثيراً من العولمة، ما تزال تعارض جوانب رئيسية مثل منظومة حقوق الإنسان، وبالتالي فهي تفضل مؤسسات بديلة للمؤسسات الدولية مثل منظمة شنغهاي ومنظمة بريكس والبنك الآسيوي.
وبالنظر إلى المستقبل فإن التعددية لا يمكنها أن تزدهر في ظل نظام ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب فالأول يؤدي إلى انقسام العالم إلى كتلتين متنافستين، كما حدث في الحرب الباردة أما الثاني فيجعل التعاون أكثر صعوبة بسبب التنافس المستمر على التحالفات والتجارة والتكنولوجيا، كما كان الحال في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وبالتالي فإن العودة للعصر الذهبي للتعددية تبدو مستحيلة لأنه لا الصين ولا الولايات المتحدة تسعيان إلى إحياء النظام التعددي بأكمله، بل فقط ما يخدم مصالحهما وفي الوقت نفسه لن تستطيع أوروبا أو أمريكا ما بعد ترامب أو الجنوب العالمي إنقاذ التعددية.
ورغم ضعف النظام، يبقى الحفاظ على ما تبقى منه ضرورياً لأنه يظل أفضل من الفوضى الكاملة لذا قد يشهد المستقبل ظهور تعددية "مجزأة" أو "مصغرة" من خلال نشأة مجموعات صغيرة من الدول المتقاربة لحل مشكلات محددة.
وقد تتبنى هذه المجموعات قيم مشتركة أحياناً، لكن غالباً ما تنشأ استجابة لتحديات عملية مثل المناخ أو الأمن أو الاقتصاد.
أخيرا، قد يكون العصر الذهبي للتعددية الذي ارتبط بالهيمنة الأمريكية في عالم ما بعد الحرب الباردة انتهى بلا رجعة حيث يشهد النظام الدولي الآن عودة الهواجس القومية وتراجع الثقة في المؤسسات العالمية وانقسام القوى الكبرى إلى كتل متنافسة إلا أن العالم لا يزال بحاجة للتعاون حتى لو في شكل تعددية مصغرة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI0IA== جزيرة ام اند امز