تاريخياً، ينتمي الكاتب والشاعر الأميركي ادغار آلن بو، مثله في هذا مثل مواطنيه وزميليه ناثانيال هاوثورن وهرمان ملفيل، الى الجيل الذي شهد ذروة إبداعه
تاريخياً، ينتمي الكاتب والشاعر الأميركي ادغار آلن بو، مثله في هذا مثل مواطنيه وزميليه ناثانيال هاوثورن وهرمان ملفيل، الى الجيل الذي شهد ذروة إبداعه وكتب أفضل أعماله خلال العقدين الفاصلين بين العام 1840 وعام اندلاع الحرب الأهلية الأميركية. وهو، في عرف الباحثين، الجيل الذي كان كثير الاهتمام بالبحث عن هوية ما للأمة الأميركية وبالتساؤل حول الروح التي يمكن بعثها في أمة قامت من لا شيء تقريباً. بالنسبة الى أبناء هذا الجيل، كان من الحتمي أن يكون التمسك بالحاضر والالتفات الى المستقبل، بديلاً حقيقياً وخلّاقاً عن ذلك الماضي الذي اعتاد أن يصنع مجد أو هوية شعوب وأمم أخرى تعيش منذ قديم الزمان، تواصلاً في تاريخها. أبناء ذلك الجيل، إذاً، لم يكن أمامهم إلا أن يؤمنوا بالتقدم وبالإنسان. ومن هنا، حتى قصص وروايات ادغار آلن بو التي قد تبدو لنا الأكثر غرابة، والأكثر ابتعاداً من العقلانية، إذا تفحّصناها جيداً، وقرأناها في ضوء زمانها وأفكار ذلك الزمان، ستلوح غائصة في مناخ عقلاني منطقي، لم يكن مصادفة أن يصرّ الشاعر - الكاتب على أن يكون هو الخيط الموصل الذي يقود العمل وروحه.
> وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام غريباً، إذ يقال عن كاتب ملأ الرعب والدماء والغيلان والحكايات الخرافية صفحات نصوصه، وأوصل الغرابة الى ذروة لم يتردد معها السورياليون، في أوروبا القرن العشرين، في اعتباره واحداً منهم. بيد أن الواقع يقول لنا أن «سوريالية» آلن بو كانت أشبه بلوحات رينيه ماغريت، منها بأعمال غيره من السورياليين اللاعقلانيين، من الذين كانت التلقائية والأوتوماتيكية تقودان أعمالهم. فلدى آلن بو، كل شيء له تفسير منطقي في نهاية الأمر. والمنطق العلمي هو الذي يسود حين تكثر علامات الاستفهام. بل إن الثورة العلمية والتقنية التي كانت تعيشها أوروبا خلال القرن التاسع عشر، نجدها ماثلة في أعماله، كجزء منها. ونحن إذا كان في وسعنا أن نلمس هذا، نتفاً، في معظم أعمال هذا الكاتب، وحتى في الكثير من أشعاره، فإنه سيكون من اللافت حقاً، أن نجد تلك العقلانية مخيّمة لديه، هناك حيث قد لا يخامرنا أي شك في إمكان وجودها، وتحديداً في حكاية مثل «البئر والبندول»، وعموماً في قصص تينك المجموعتين اللتين جُمعت فيهما قصص معتبرة له كان نشرها في مجلات ومناسبات متفرقة، وحملتا معاً اسماً ابتكره لهما، في الفرنسية، شارل بودلير فارتبطتا به الى الأبد: «قصص غير عادية» أو غرائبية كما قد يفضل البعض.
> هذه الحكايات تعتبر الأشهر بين أعمال ادغار آلن بو، وإن كان ثمة من يفضّل عليها نصوصاً له أخرى، مثل «سقوط منزل آل آثر» و «الجريمة المزدوجة في شارع المشرحة». ومهما يكن من الأمر، فإن المؤكد هو أن ادغار آلن بو كان رائداً في كل الأنواع التي خاضها. وهو كان رائداً على وجه الخصوص، في ذلك المزج الخلاق بين العلم والتقنية من جهة، والمشاعر والأحاسيس الغريبة والمواقف المرعبة من جهة ثانية. وفي المجال نفسه يمكن القول الآن أن ادغار آلن بو، في الكثير من قصصه و «الابتكارات العلمية» الموجودة فيها، كان سبّاقاً حتى على جول فيرن وهـ. ج. ويلز، وغيرهما من الآباء الشرعيين للخيال العلمي الحديث.
> فإذا بدأنا الحديث هنا بنصه الغريب «البئر والبندول»، نجدنا في أجواء محاكم التفتيش الإسبانية، حيث يحكي لنا سجين سابق فيها، عن وسائل التعذيب المبتكرة القائمة على آلات من صنع الرهبان وظيفتها ترهيب المساجين وجعلهم في إحساس دائم بدنو الموت منهم، بغية دفعهم الى الاعتراف أو التوبة، أو حتى بغية معاقبتهم على ما اقترفوه. ومن هذه الوسائل آلة غريبة يصفها لنا الكاتب بدقة المخطط الهندسي، مؤكداً تداخل تفاصيلها ووسائل فعلها، حيث لا تترك الآلة مجالاً لأي تخمين في مضمار كونها مصنوعة من عقل ويد خلاقين خبرا كل ضروب التقنيات الحديثة. إن هذه الآلة، حتى وإن كانت من بنات القرون الوسطى، تعمل هنا وكأنها ابنة التقنيات الحديثة.
> وفي هذا السياق نفسه، وإن لم يكن على المستوى ذاته من الترهيب، تشتغل بقية الحكايات التي نجدها تملأ المجلدين اللذين نتحدث عنهما. وقد يصحّ أن نتوقف هنا، خصوصاً، عند الحكايات الأولى التي كتبها آلن بو، وكان لا يزال بعد شاباً... ففي هذه الحكايات، يطالعنا الكاتب وقد رضخ في أسلوبه وتفاصيله الى نوع خلّاق من المزج بين الحس الأدبي وفلسفة العلم، تلك الفلسفة التي، وفق واحد من محللي أعماله «قادته الى عزو كل الأحداث التي تشكل مادة تلك الحكايات، الى مبادئ هذا العلم أو ذاك، في شكل منطقي عقلاني لا لبس فيه ولا غموض». فمثلاً، في القصة المعنونة «مغامرة المدعو هانز بفال الغريبة»، يروي لنا الكاتب حكاية رحلة غريبة يقوم بها رجل في بالون يصنعه بنفسه. ويصف آلن بو البالون وتفاصيله التقنية هنا بصورة تدفع القارئ الى الاعتقاد المنطقي بأن في إمكانه هو أن يصنع بالوناً مشابهاً لو اتّبع تعليمات الكاتب بدقة. وفي قصة «البالون الكناري» يصف لنا الكاتب حكاية عبور المحيط الأطلسي خلال ثلاثة أيام عاصفة على متن بالون أسهب هنا أيضاً في وصف تفاصيله التقنية، حتى بدت مقنعة علمياً الى أبعد حدود الإقناع. وفي قصة «اكتشاف فون كمبلن» تطالعنا المحاولات التي يقوم بها خيميائي لتحويل المعادن الخسيسة الى ذهب... وتدور أجواء هذه الحكاية في مختبر مجهّز بأحدث الوسائل العلمية، وبين قوارير مواد يصفها الكاتب بدقة وتفصيل عالم كيمياء حقيقي. وفي حكاية أخرى عنوانها «هبوط الى الجحيم» نجدنا في إزاء بحّار حدث لمركبه أن ضاع وسط إعصار وعاصفة عاتيين، فلا يكون منه إلا أن يربط نفسه ببرميل، وقد أسلم أمره الى ذلك المبدأ العلمي الفيزيائي الذي يفيد بأن شكلاً أسطوانياً جُذب الى تيار عاصف، يمكنه أن يقاوم بأفضل مما يفعل أي شكل هندسي آخر، في مواجهة قوة جذب هائلة. وفي حكاية «مخطوطة عُثر عليها في زجاجة» يمزج آلن بو بين الموضوع العلمي (موضوع استكشاف المناطق القطبية المجهولة) والموضوع الغرائبي (موضوع المركب - الشبح الشهير) ليخلق توازناً بين الموضوعين وبين العقل والمخيلة يسود طوال مجرى الحكاية، وفي شكل تكون للعقلانية العلمية المرتبة الأعلى. وفي قصتين أخريين في المجموعة، يطرح ادغار آلن بو إمكان إبقاء كائنات حية على قيد الحياة بعد موتها الفيزيائي... وهكذا، على مدى هذه الحكايات يحاول الكاتب أن يزاوج بين العقل والخيال، في شكل استبق أعظم أعمال الخيال العلمي في القرن العشرين، ما يجعل من قصصه هذه كلها، تمهيداً لعالم الخيال العلمي، مع التركيز على الربط بين الكلمتين اللتين تشكلان هذا التعبير الذي يمكننا اعتبار آلن بو رائداً فيه حتى وإن لم يكن التعبير قد وُجد رسمياً إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبعد رحيل هذا المبدع بأكثر من نصف قرن.
> لم يعش ادغار آلن بو، كما نعرف، سوى أربعين عاماً، اذ انتهت حياته في خريف العام 1849 حين عُثر عليه جثة هامدة في أحد شوارع بالتيمور، فقال البعض يومها أنه مات منتحراً، فيما قال البعض الآخر انه انما سقط ضحية داء وبائي أصابه. وفي الأحوال كافة كان مصيباً، على الأرجح، مترجمه الى الفرنسية شارل بودلير الذي قال أن بو، شأنه شأن كل الكتاب القلقين، الذين تكاثرت أسئلتهم على عقولهم، وتأرجحوا بين الخيال والواقع، انما مات في «انتحار ذهني كان حضّر له منذ زمن بعيد». غير أن موت آلن بو المبكر، لم يمنعه من أن يترك، لدى رحيله، عشرات النصوص الشعرية والروائية والقصصية والتأملات الفكرية التي جعلت منه بحق، ليس واحداً من كبار الكتّاب الأميركيين في كل الأزمنة، بل أيضاً واحداً من الكتاب والشعراء الذين بهم افتُتحت الحداثة الأدبية... ولكن أيضاً العلمية الى حد كبير.
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة