كيف يدير الغرب حروب اليوم؟
كيف يدير الغرب حروب اليوم؟
يديرها من «المدن المتوحشة» عبر تطبيق مصطلحين خطرين تندرج تحتهما أهوال الحروب الحديثة هما: الإخضاع الداخلي والخارجي معاً وهو إكراه لا يقتل الدولة ولا يلغيها بل يحولها إلى خانة المصطلح الثاني أعني «الدولة الفاشلة» في أسفل السلم الدولي حسب التصنيفات الدولية التي تجوب المعمورة في وسائل الإعلام. وتعني الدولة الفاشلة تلك الضائعة وغير المستقرة والجاهزة للتخريب على كافة المستويات داخلياً وخارجياً عبر خطوات تنفذ ببطء شديد تجعل المواطنين يذهبون للنوم والندم عندما تستيقظ دولتهم شبه ميتة.
عندما نقول حروب اليوم، يفترض بنا الخروج نهائياً من التقليدية في تفكيرنا، فننظر من حولنا ونحاول معاً فهم هذا الجيل من الحروب الحديثة التي ما عادت تقوم بين دولتين أو تحالفين بعد تحريك الجيوش النظامية، لينتهي الأمر بعد المواجهة بهزيمة عسكرية عبر معارك متبادلة في الهجوم والدفاع ثم الاندفاع إلى المعاهدات والتسويات كضرورات حتمية. وقد يكون العراق التجربة الأخيرة التي خرج منها الغرب بعدم إرسال قوات نظامية خارج الحدود.
لو تأملنا قليلاً في انهيار جدار برلين العلامة الفارقة الكبرى للحرب الكبرى، فإننا لن نجد مدافع أو دبابات أو طائرات وألغاماً بل معاول ومطارق وإرادات شعبية حاقدة كانت تتأهب خلال قرنٍ باستخدام القدرات العقلية الذكية، والإعلام السلاح الرئيسي في هذا الإطار. ثم خرجت أقوى من الأسلحة الفتاكة كلها بعد بذر الخوف والقلق وعدم الاستقرار. اختلفت العدة الجديدة للحروب كلياً، وبكلمات بسيطة صارت تقوم على التآكل والإنهاك واكتساب النفوذ والتأثير في العدو والإكراه ودفعه إلى الانصياع لإرادتك وأنت بعيد. طبعاً القلق عبر الضغوطات هو المفتاح، وتأزيم المواطنين هو المطلوب، وهو يحتاج إلى وقت طويل وصبر واستراتيجيات معرفية هائلة. قد يحتاج الأمر أحياناً إلى إرسال جيوش حديثة جاهزة فيها الرجال والنساء والأطفال متعددي الجنسيات وفقاً لمفهوم صناعة الجيوش الوظائفية الحديثة. والأهم من هذا كله هو جعل جزء من حاملي هوية دولة ما ينتفضون ولو قمعوا على سلطة الدولة فلا يخضعون لها حتى تبدأ السيادة بالاهتزاز.
تصبح الدولة المستهدفة من الداخل عاجزة عن التحكم بمواطنيها عبر تأليب الخارج لمجموعات شريرة قد تكون تابعة للدولة أو تابعة للخارج بما يجعل الدولة تتلاشى لكنها ما تزال موجودة. وهذا يعني الوقوع في شراك من يرعاها كدولة فاشلة أي أن يتحكم بها بعد أن تصبح مسرحاً للجرائم التي تفوق التصور.
باختصار، باتت الحروب ترتبط بالمعلومات الفوضوية ووسائل الاتصال التي ترمي الشعوب في أودية المعرفة وشعابها وفوضاها وفي صراعات اقتصادية ومذهبية وطائفية بما يجعل الاستيلاء عليها ميسوراً يتجاوز تكلفة الربح والخسارة، العقيدة التقليدية في الاستيلاء. إنه الوجه المظلم للعولمة الرافلة بثوبها الجميل فوق العقول والأصابع والثقافات والأوطان.
تستهلك حمى العولمة الكثير من تفكير البشر وحبرهم وسلوكهم وأوطانهم وما زالت، لكن اللافت أنها مصطلح مطاط عالمي شرس على الرغم من احتفاظه بهويته الأمريكية الضبابية التي «تحكم» العالم وتعري دوله وتنعتها بالدول الفاشلة. كان يصعب هضمه أو ضبط تداعياته التغيرية بالمعنى النقدي العلمي لا من العرب والمسلمين وحدهم، ولكن من الكثير من الشعوب الأخرى أيضاً، لأنه حوّل الكرة الأرضية بأنظمتها وسلطاتها وشعوبها إلى «عالم مكشوف ومهدد» اختلطت فيه المواقع والثقافات وهو ما سيستوقف الباحثين في تأريخهم للقرن الحادي والعشرين أمام ألفية جديدة قائمة على الكومبيوتر مختلف الأحجام ومتعدد الوظائف والذي يتجاوز باعتباره نقطة الانتباه والجذب والتحدي والتطور الأكثر وقعاً ربما من هجمات 11 سبتمبر/أيلول أو حرب العراق أو غيرهما.
لا مغاور أو كهوفاً في العالم أمامنا ولا نتوءات أو حواجز أو تقاليد أو حدوداً تحجب العين أوالعقل والطموح، بل الانصراف الطبيعي إلى إعادة تأسيس المجتمعات وعرض مشاهد حروبها وحتى تدميرها أومحو تواريخها ونسف أثاراتها وتراثها بالحروب «الضرورية» لمعامل السلاح ومخازنه، تحت يافطة فكرتين أساسيتين هما التغيير والتحول الدائمين بالقوة والدماء النابعة والمهدورة من الداخل، عبر ثقافة الريبة والزعزعة سوقاً سهلاً ولا متناهياً. وعندما تتأهب الدول العظمى للتغيير في أرجاء العالم تسبقها لغتها نحو الميادين.
وقد يسأل معترض: ما علاقة العولمة بالحروب؟
ارتبطت ولادة مصطلح العولمة بمارشال ماكلوهان(1911 1980) أستاذ الإعلام الكندي ومطلق «القرية الكونية» كتسمية عالمية رددها الشرق ببغائياً في كتابه:«الحرب والسلام في القرية الكونية»، ركز فيه على تجربة الحرب الأمريكية القاسية في فيتنام والدور الهائل الذي لعبه فيها التلفزيون الذي أخرج الناس من خانة المشاهدين إلى ميدان المشاركين في الآراء والمواقف ليختلطوا أو يندمجوا بشكلٍ كامل بالعسكريين حيث صارت الحروب العسكرية والإعلامية تمشي معاً ولو افترقت بخطواتٍ تمهيدية أو لاحقة.
لطالما كنت أحتقر هذا المصطلح «القرية الكونية» فأسميها «المدينة المتوحشة» في موقف حاد على ما يحصل في بلادنا من كوارث وعدم استقرار وفوضى ومذابح، إنصافاً بالطبع لصورة القرية بما تختزنه من وداعة وهدوء وخضرة وقيم وبساطة يمكن نعت بلادنا بها ولو أن المدن الكبرى وأودية السيليكون غارقة بالمساحات الخضراء أوتظللها الأبراج الشاهقة لكن جوانبها المظلمة تحمل الكثير من سوء العدالة والرفاهية والبؤس والحروب الحديثة والإكراه والتفشيل كصفتين.
نقلًا عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة