ثمة تساؤل يفرض نفسه بإلحاح عن مدى قدرة حكومات الدول المنتجة للنفط، على التعايش مع أسعاره المنخفضة (تحت نطاق 50-70 دولاراً للبرميل)، بخاصة مع المأزق الذي تجد فيه الصناعة النفطية نفسها. فإذا ارتفعت الأسعار، يزداد إنتاج النفط الصخري والرمل القاري والنفوط في
ثمة تساؤل يفرض نفسه بإلحاح عن مدى قدرة حكومات الدول المنتجة للنفط، على التعايش مع أسعاره المنخفضة (تحت نطاق 50-70 دولاراً للبرميل)، بخاصة مع المأزق الذي تجد فيه الصناعة النفطية نفسها. فإذا ارتفعت الأسعار، يزداد إنتاج النفط الصخري والرمل القاري والنفوط في أعماق البحار والمحيطات، ناهيك بتطوير صناعات الطاقات المستدامة من شمسية ورياح، بل حتى الطاقة النووية. أما في حال انخفاض الأسعار عن 50 دولاراً، فتعاني الدول المنتجة من تخبط ومشاكل جمة في سياساتها المالية. فقد رسمت الموازنات على أساس أسعار نفط عالية، لكن التزمت بنفقات مكلفة.
أصبح ضرورياً استيعاب التغيرات المهمة مراجعتها في الصناعة النفطية العالمية، والمنافسات التي تواجهها، ووضع سقف لما يمكن توقعه من الريع النفطي مستقبلاً، والتوقف عن الاعتماد الشامل على النفط في دعم النهج الاقتصادي الذي تم اعتماده خلال العقود الماضية، إن بالنسبة للدول المنتجة ذاتها، أو الدول العربية غير المنتجة. أو المبادرة بردع الفساد الذي عم الدول العربية، أو التخطيط لاقتصاد منتج يحقق مصادر دخل وعمل متعددة ومتنوعة كي لا يستمر الاقتصاد متكلاً على قطاع النفط فقط، أو على القطاع العام في شكل كبير. ويجب تقليص الدعم السخي لوقود الطاقة المستهلك محلياً واعتماد أسعار تجارية بدلاً منها لترشيد الاستهلاك وتقليص النفقات.
آن الأوان، مع توقع مستوى جديد لسعر منخفض للنفط، للتوصل الى عقد اجتماعي جديد في الدول العربية. عقد ينوع مصادر الدخل فيها، ويقلص تخمة الجهاز الحكومي. كما يجب تشديد قوانين الرقابة والمحاسبة لتقليص الفساد. فالتحدي الآن، لا يقتصر فقط على تطوير الاقتصاد، بل العناية والرعاية لملايين المهاجرين والنازحين، وتوفير فرص عمل منتج لملايين العاطلين من العمل، وإعادة إعمار ما تهدم من مدن كبرى وبنى تحتية. ويستوجب العقد الاجتماعي الجديد فتح المجال لاستقطاب استثمارات القطاع الخاص بالشراكة أو التعاون مع المال العام لإعمار ما يتهدم في الحروب. وهذه المسؤولية هي أكبر من إمكانات دولة عربية واحدة. كما أنها مسؤولية جماعية للمنظمات غير الحكومية وشركات البناء والإنشاء والمصارف. ومن المهم أن تضع الدول موازنات معقولة تتناسب مع إنتاجها النفطي المستقبلي، والعلاقة بأسعار النفط المتوقعة.
هذا الأمر لا يعني البتة أننا نتكلم عن انتهاء عصر النفط . إنه دعوة للتفكير والعمل على أساس بروز تنافس قوي للصناعة النفطية، ما يؤثر في الأسعار. فالأزمة الحالية التي بدأت منذ منتصف عام 2014 سببها الأساس الصعود السريع والعالي لإنتاج النفط الصخري الأميركي، الذي بلغ ذروته عام 2015 مسجلاً نحو 5 ملايين برميل يومياً، أي ما يزيد قليلاً على إنتاج العراق الحالي، ثاني أكبر دولة منتجة في منظمة «أوبك». ويجب أن نتوقع مستقبلاً، المنافسة من الرمل القاري الكندي، وتدريجاً استبدال الوقود البترولي في السيارات بالطاقات المستدامة. وكما هو معروف، فإن التقنية أصبحت متوافرة، وكان يؤخر تسويق السيارات هذه سعرها العالي. أما الآن، فهذه السيارات تباع في الولايات المتحدة بأسعار تنافسية يبلغ بعضها نحو 25 ألف دولار للسيارة. وهناك عمل دؤوب لتحسين التقنية باستمرار وتقليص أسعار السيارات غير التقليدية. وتتوجه شركات السيارات في معظم الدول الصناعية الى إنتاج سيارات من هذا النوع، إضافة الى الشركات الحديثة العهد، مثل شركة «تيسلا» الأميركية. إنها فقط قضية وقت لا أكثر. والخطورة في الأمر، أن وقود المواصلات هو عماد الصناعة النفطية، فمنافسة النفط في قطاع المواصلات، ستصيب الصناعة النفطية في الصميم.
في التغييرات المرتقبة في الصناعة النفطية، هناك في المدى القصير على سبيل المثل، إمكان تحسن أسعار النفط في حال اتفاق «أوبك» والدول المصدرة في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). لكنْ هناك كلام كثير عن صعوبة الاتفاق وتزايد الخلافات، ما يدعو الى توقع تدهور جديد للأسعار في حال عدم الاتفاق في الاجتماع المقبل. لكن حتى في حال التوصل الى اتفاق، فهذا لا يعني احتمال تحسن كبير للأسعار، أي العودة الى سعر 100 دولار للبرميل، بل يعني استقرارها في نطاق سعري بين 50 و60 دولاراً.
يعود السبب في ذلك الى زيادة الدول المنتجة. فهناك على سبيل المثل، نحو 4200 بئر لتكسير النفط الصخري في الولايات المتحدة عاطلة من العمل، وتحتاج الى 4-6 أشهر للعودة للإنتاج وأسعار تتراوح ما بين 55 و70 دولاراً للبرميل كي يصبح إنتاجها اقتصادياً ومربحاً مرة أخرى. هذا يعني أن النفط الصخري أصبح النفط المرجح في الأسواق. أي أن هذه الصناعة، قبل غيرها، تزيد إنتاجها أو تقلصه، اعتماداً على الأسعار السائدة. وبما أن كلفة إنتاج النفط الصخري عالية، وبما أن الصناعة تعتمد أساساً على شركات استثمارية صغيرة وقليلة رأس المال، فإنها تعتمد في شكل واسع جداً على قروض المصارف المالية. وكما دلت تجربة السنتين الماضيتين، فإن المصارف تجمد قروضها في حال تدهور الأسعار. من ثم تضطر الصناعة الى وقف استثماراتها في حفر الآبار أو تطوير حقول جديدة.
يختلف الأمر كلياً بالنسبة إلى الحقول التقليدية. فكلف الإنتاج تتراوح ما بين 10-30 دولاراً للبرميل، والأهم من ذلك أن الصناعة تدار من جانب شركات كبرى أو متوسطة ذات رؤوس أموال ضخمة. وتدل تجربتها على إمكان استمرارها في الإنتاج، بل زيادته، على رغم انخفاض الأسعار.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة