دلالات العرض العسكري في يوم الاستقلال الأمريكي
جدل كبير أثاره الرئيس ترامب بشأن تنظيم عرض عسكري في واشنطن بمناسبة الاحتفال بعيد الاستقلال في 4 يوليو الجاري.
تسود الولايات المتحدة هذه الأيام حالة من التربص وسوء الظن بين الرئيس دونالد ترامب وأنصاره من ناحية والحزب الديمقراطي وأنصاره من ناحية أخرى. وتتجلى هذه الحالة في توجيه الاتهام لترامب بأنه يستخدم منصبه كرئيس في الترويج لحملته في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وكانت آخر المواجهات بين الرئيس وخصومه الجدل الذي ثار بشأن تنظيم عرض عسكري في العاصمة واشنطن؛ بمناسبة الاحتفال بعيد الاستقلال يوم الخميس الماضي 4 يوليو/تموز 2019.
ويبدو أن هذه الفكرة بدأت تختمر في عقل الرئيس بعد حضوره العرض العسكري في فرنسا في 14 يوليو/تموز 2017، وهو تاريخ عيدها الوطني الذي يُصادف يوم تحطيم سجن الباستيل إبان الثورة الفرنسية عام 1789. فقد أعجب ترامب بالعرض العسكري ووصفه بأنه واحد من أجمل العروض التي شاهدها في حياته. وفي 18 يناير/كانون الثاني 2018، اقترح الرئيس تنظيم عرض عسكري في 11 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، وهو يوم المحاربين القدامى وذكرى مرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى.
وعندما تسربت أخبار عن أن التكلفة المالية لهذا الاحتفال سوف تصل إلى 93 مليون دولار ثارت ثائرة المنتقدين بما فيهم رئيس جمعية المحاربين القدامى الذي قال إنه من الأفضل أن يتم إنفاق هذا المبلغ على المحاربين القدامى ورعاية أسرهم بدلاً من إنفاقه على هذا العرض العسكري الذي لن يفيدهم بشيء، فقرر ترامب تأجيل تنفيذ الفِكرة إلى وقت آخر.
وفي يونيو/حزيران الماضي, أعلن الرئيس أنه قرر إقامة هذا العرض العسكري في 4 يوليو/تموز الجاري بمناسبة عيد الاستقلال. وتعالت انتقادات أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الحزب الديمقراطي وأعضاء مجلس بلدية مدينة واشنطن الذي يُسيطر عليه الديمقراطيون على هذه الفكرة. وكالعادة انقسمت وسائل الإعلام الأمريكية بين تلك التي تناصر الرئيس وتبرر مواقفه وآراءه وأبرزها شبكة فوكس الإخبارية وبين تلك التي تناصبه العداء وأبرزها شبكة cnn الإخبارية وكبريات الصحف الليبرالية وفي مقدمتها نيويورك تايمز وواشنطن بوست.
واستندت الانتقادات الموجهة إلى تنظيم العرض العسكري إلى عدة أسس منها أنه تقليد غير مسبوق، فلم يتعود الأمريكيون على تنظيم عروض أو استعراضات عسكرية بهذه المناسبة الوطنية والتي يحتفلون بها على مر السنوات بالأناشيد الوطنية والخروج إلى الساحات والحدائق العامة والاستمتاع بمتابعة الألعاب النارية في المساء. ومنها التكلفة المالية لهذا الاحتفال. وتساءلوا عن أي بند في الموازنة العامة سوف يتم استخدامه، والذي لم يتم التخطيط له سلفاً.
وأبدى المنتقدون تخوفاتهم من أنه سيتم تحويل موارد مالية من بنود أخرى لتغطية نفقات الاحتفال، وأكدوا مخاوفهم مما تم تسريبه من أنه تم تحويل مبلغ 2.5 مليون دولار من موازنة إدارة الحدائق العامة لهذا الغرض، وأن تكلفة المناسبة تزيد على 90 مليون دولار، وطالبوا الرئيس بالكشف عن تكاليف الاحتفال ومصادر تمويله.
ومن بين الأسس التي وجهت على أساسها الانتقادات لهذا العرض العسكري أيضاً، أن أمريكا لم تتعود على تنظيم عروض عسكرية وذلك خلافاً لدول أخرى مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية, معتبرين أن ذلك أمر غريب عن الديمقراطية الأمريكية.
ولكن الانتقاد الأكبر والأكثر أهمية لهذا الاحتفال كان رفض توظيف مناسبة عيد الاستقلال لأغراض حزبية وانتخابية وأن يستخدمه الرئيس الأمريكي ترامب لتعبئة الرأي العام لصالحه. فعيد الاستقلال هو مناسبة وطنية وفرصة على تأكيد ما يوحد الأمريكيين ويجمعهم.
دعم المنتقدون رأيهم بأن هذا الاحتفال يتم الإنفاق عليه من الموازنة العامة، وهي أموال دافعي الضرائب، وأن استغلال المناسبة لأغراض سياسية أو حزبية يمثل مخالفة للدستور والقانون ويُعرض مرتكبها للمساءلة القانونية. وحذروا الرئيس من أن تتضمن كلمته بهذه المناسبة أي دفاع عن سياساته أو انتقاد للمُخالفين له في الرأي.
وهاجم بعض المعلقين السياسيين فكرة العرض العسكري باعتبار أنها تُعبر عن غرور ترامب وشعوره المتضخم بالذات.
أما الرئيس ترامب وأنصاره فقد أكدوا أن الهدف الوحيد من هذا الاحتفال هو تكريم الولايات المتحدة وجيشها الذي يحمي أمنها ويصون تقدمها وازدهارها، وأن الشعار الوحيد للاحتفال هو "تحية لأمريكا". وأشاروا إلى أن تنظيم هذه العروض العسكرية معروف في دول ديمقراطية مثل فرنسا وكوريا الجنوبية وأن هناك سوابق لتنظيم عروض ومواكب عسكرية في أمريكا كان أحدثها الاحتفال في عام 1991 بالنصر في حرب تحرير الكويت، فقد جاب ما يقرب من 8 آلاف جندي شوارع مدينة واشنطن وحلقت الطائرات في الجو احتفالاً بالمناسبة، ووقف نحو مليون مشاهد لمتابعة الموكب، الذي اعتبر أكبر عرض عسكري في أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كما استند أنصار ترامب ومؤيدو الفكرة إلى أن هناك نماذج أخرى لعروض عسكرية ففي عام 1942 –أي خلال الحرب- شارك 30 ألف رجل وامرأة في مسيرة بمدينة نيويورك بمناسبة "يوم الجيش". وفى عهد الرئيس كندي فقد شارك في حفل تنصيبه عام 1961 مجموعات من رجال الجيش والبحرية. أما بالنسبة للتكلفة فقالوا إنها محدودة للغاية، وغرد ترامب على موقع تويتر قائلاً: "لدينا الطائرات والطيارون والمطارات ولن نتكلف سوى الوقود"، وإن كان لم يكشف عن تكلفة الاحتفال مما يرجح أن منتقديه سوف يستمرون في إثارة هذا الموضوع.
ولم يكن من شأن الانتقادات أن تثني من عزم الرئيس وقراره، وبالفعل تم تنظيم العرض العسكري في 4 يوليو الجاري، وشاركت فيه قوات من وحدات الجيش، وسار الموكب في يوم مطير تسبقه فرق الموسيقى العسكرية لمسافة ميل في شارع الدستور، وهو من أكبر شوارع العاصمة واشنطن، ووصلوا إلى نصب الرئيس إبراهام لينكولن؛ حيث ألقى ترامب خطاباً قصيراً أشاد فيه بدور الجيش الأمريكي على مدى 250 عاماً، وبدوره في الحفاظ على أمن أمريكا ومصالحها في العالم وأن أمريكا اليوم أقوى من أي وقت مضى.
ووعد ترامب بأن يكون العلم الأمريكي أول علم يرفع على أرض كوكب المريخ، وأضاف أن أمريكا هي "أكبر دولة استثنائية في تاريخ العالم". وقال "المستقبل ملكنا".
رافق ذلك تحليق مجموعة طائرات الملائكة الزرقاء وهي الطائرات المتخصصة في القيام باستعراضات جوية تجذب الأبصار وتثير الإعجاب لمهارة طياريها في عمل تشكيلات وحركات صعبة في الفضاء. وشاركت الطائرة الخاصة بالرئيس us-1 في الاحتفال، وحلقت على ارتفاع منخفض واستغرق كل ذلك حوالي 45 دقيقة. وكانت المفاجأة احتشاد عشرات الآلاف من الأمريكيين من سكان العاصمة والزائرين من ولايات أخرى لحضور الاحتفال ومشاهدة العرض العسكري، وهو ما جعل ترامب يصفه بأنه "أكبر وأضخم الاحتفالات في تاريخ أمريكا". وفي المساء، أضاءت سماء واشنطن أعداداً كبيرة من الألعاب النارية من جميع الأشكال والألوان.
تجنب الرئيس ترامب في خطابه أي عبارات لها طابع سياسي أو حزبي ولم يجد منتقدوه ما يدعو للانتقاد، ولكنهم في الوقت نفسه لم يتركوا المناسبة تمر دون توجيه انتقادات جديدة للرئيس. فلاحظ بعضهم أن المكلف بوزارة الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش قد حضرا، بينما غاب عن الاحتفال قادة الجيش والقوات البحرية والجوية والفرق الأخرى، وفسروا ذلك بأن تقاليد الجيش الأمريكي تمنع الضباط العاملين في الجيش ووزارة الدفاع من حضورهم أي مناسبات سياسية.
وانتقد آخرون الأسلحة التي ظهرت في العرض، معتبرين أنها ليست أحدث الأسلحة أو أكثرها تقدماً، وأنها لا تعطي صورة صادقة عن حجم التقدم والإنجاز العسكري الذي حققه الجيش الأمريكي، وظهر هذا الانتقاد بوضوح في تعليقات البرنامج الساخر 60 دقيقة.
وذكر أحد المشاركين في البرنامج أنه بسؤال وزارة الدفاع عن الأسلحة التي ظهرت في العرض، كانت الإجابة أن ذلك تم بناء على تعليمات البيت الأبيض.
وأصر فريق ثالث على أن الاحتفال خدم حملة ترامب الانتخابية وأن مجرد ظهوره في هذه المناسبة وحديثه فيها يمثل دعاية بشكل غير مباشر لنفسه. وأضاف المعلقون الأوربيون أن العروض العسكرية في أوروبا لا تهدف إلى إظهار القوة العسكرية أو تمجيدها ولكن استذكار مآسي الحروب وتحاشي ويلاتها. ويدُل على ذلك أن فرنسا عادة ما تدعو قوات من الدول الأوروبية ومستعمراتها السابقة كالسنغال والجزائر للمشاركة في عرضها العسكري السنوي.
كان العرض العسكري في 4 يوليو/تموز الجاري، هو أول عرض عسكري يُقام في أمريكا بمناسبة عيد الاستقلال. وكان ترامب هو أول رئيس يُلقي خطاباً في هذا اليوم من عِدة عقود. لم يكن ذلِك مُستغرباً، فترامب ليس رئيساً عادياً ولم يلتزم في أداء عمله بالتقاليد التي أرساها الرؤساء السابقون ويكفي الإشارة الى أنه قبل أن يهدأ الجدل الذى أثاره موضوع العرض العسكري، فإنه في اليوم التالي مُباشرة للعرض أي يوم 5 يوليو/ تموز الجاري أثار ترامب ضجة أخرى بإشارته إلى أنه ما زال يبحث عن طريقة لإضافة سؤال عن "الجنسية" في استمارة تِعداد السكان الذي سوف يجري في 2020 رغم أنه قد صدر حكم من المحكمة العليا وهي أعلى مستوى قضائي في البلاد بمنع ذلك.. وما زال في جُعبة ترامب الكثير.
aXA6IDMuMTM3LjE2NC4yMjkg جزيرة ام اند امز