لا بد أن الرئيس التركي أردوغان يشعر بأنه فقد شيئا في البيت الأبيض.
فرغم التوترات الطارئة بين أمريكا وتركيا فقد كان الرئيس ترامب حريصاً على أن يحصرها في أضيق الحدود. وتكشف صفحات كتاب "جون بولتون" مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق عن عمق العلاقة التي ربطت بين الرجلين والتي سمحت لأردوغان بأن يطلب من ترامب التدخل لوقف تحقيقات النائب العام الأمريكي في قضية تجاوزات مالية قام بها "بنك خلق" المملوك للحكومة التركية. ويكشف عن ذلك أيضاً تأخر أردوغان في تقديم تهنئته للرئيس الجديد بفوزه في الانتخابات.
ومن الواضح أن مجمل توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة يتعارض مع سياسات أردوغان ونظامه، سواء من حيث المضمون أو الشكل. فبايدن يرغب في أن تكون إدارة العلاقات بين البلدين بطريقة مؤسسية ومن خلال وزارتيْ الخارجية والدفاع والهيئات ذات الصلة، وليس من خلال العلاقات الشخصية بين الرئيسين. ولهذا، رفض بايدن إجراء محادثة هاتفية مع أردوغان حتى الآن.
وهناك قضايا عديدة سوف تتأثر بسياسات بايدن، منها رغبته في إعادة الاعتبار وتحسين العلاقات الأمريكية الأوروبية ودعم التحالف الغربي، وإنهاء التوترات مع الحلفاء. ويفرض هذا التوجه على أردوغان مراجعة سياساته التصادمية مع الاتحاد الأوروبي في منطقة شرق المتوسط. ولعله السبب الرئيسي الذي دفع تركيا إلى إعادة النظر في مواقفها، ووقف عمليات التنقيب في المناطق المتنازَع عليها مع قبرص، وبدء مباحثات مع اليونان في 25 يناير الماضي، ودعوة أردوغان لبدء صفحة جديدة من العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وإحياء فكرة انضمام تركيا إليه.
ومن ذلك قضية شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية "اس 400"، التي وقَّعت عليها عام 2017 وبدأت في الحصول عليها عام 2020، فقد عارضها الكونجرس والإدارة الأمريكية في عهد ترامب باعتبار أنها تُمثِّل تهديداً لأمن حلف الأطلنطي، وأدى ذلك إلى استبعاد تركيا من برنامج إنتاج الطائرات فانتوم 35 في 2019، وتوقيع عقوبات على هيئة الصناعات العسكرية التركية في ديسمبر 2020، وهو القرار الذي وصفه أردوغان وقتذاك بأنه "خطأ جسيم"، وأنه لن يسمح لأي دولة بالتدخل في تحديد أولويات الدفاع عن الأمن التركي.
ومن الأرجح، أن تتبع إدارة بايدن سياسة أكثر حسماً وقوةً في هذا الشأن. ويدل على ذلك وصف أنتوني بلينكن وزير الخارجية، أثناء إلقاء شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ في 20 يناير، لتركيا بأنها "شريك استراتيجي مزعوم"، وأن فكرة أن يكون أحد شركاء أمريكا الاستراتيجيين على علاقة وثيقة بروسيا هي " فكرة غير مقبولة".
وهناك قضية انتهاك الحريات العامة وحقوق الإنسان في تركيا والتي اتخذت أشكال الاعتقال لعشرات السياسيين المعارضين، وتسريح آلاف الموظفين والقضاة والمدرسين والإعلاميين والجنود والضباط، وإغلاق الصحف والمجلات. كانت هذه التصرفات محل انتقاد لبايدن خلال حملته الانتخابية، والتي أشار فيها إلى السياسات الاستبدادية لأردوغان. وهو الأمر الذي التقطه الأخير وأعلن عن رغبته في إدخال إصلاحات اقتصادية وقانونية في نظم إدارة الدولة. وفي هذا السياق، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بياناً في الأسبوع الأخير من شهر يناير انتقد الإجراءات التركية المخالِفة لحقوق الإنسان وتحديداً واقعة إعادة اعتقال عدد من المعارضين السياسيين بعد تبرئة المحكمة لهم.
وهناك قضية موقف تركيا تجاه الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية، والتي تعتبرها جزءاً من حزب العمال الكردستاني الصنف إرهابيا في تركيا، في الوقت الذي تتعاون فيه الولايات المتحدة مع هذه القوات وتعتبر أنها قد قامت بدور في إلحاق الهزيمة بداعش، وما زالت هناك مخيمات في مناطق سيطرتها تضم آلاف المقاتلين الأجانب من الدول الأوروبية والذين ترفض دولهم عودتهم إليها.
يزيد من حرج الموقف التركي، تعيين بريت ماكجورك، الذي تعتبره صديقاً للأكراد، منسقاً لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي. وجدير بالذكر أن ماكجورك عمل في عهد الرئيس أوباما منسقاً للتحالف الدولي ضد داعش، وأيَّد سياسة تسليح الأكراد مما جلب عليه غضب تركيا وحنقها، فقامت بحملة علنية ضده حتى استقالته في نهاية 2018. وفي أعقاب ذلك، اتهم أنقرة بالتراخي في مكافحة تنظيم داعش.
في هذا الإطار، يمكن فهم سعي أردوغان إلى فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، وتحسين العلاقات مع الدول العربية، وإصلاحها مع إسرائيل، وتعيين سفير جديد لبلاده في واشنطن.
ومن الأرجح، أن تستمر هذه التحركات حتى اجتماع قمة الناتو في بروكسل في 17 فبراير الجاري والذي يشترك فيه بايدن وأردوغان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة