"أوراق العشب".. ديوان غيّر تاريخ الشعر وفصل صاحبه من العمل
سيرة ويتمان تبدو بالغة الإثارة بفضل الخبرة الإنسانية الفريدة التي أتيحت له، فقد ولد لأبوين ينتميان إلى أصول إنجليزية وهولندية.
في مثل هذا اليوم من عام 1855 صدرت الطبعة الأولى من ديوان "أوراق العشب" للشاعر الأمريكي والت ويتمان (1819-1892)، التي أحدثت أكبر الأثر في تطور الشعر الحديث، لكن ما زاد من أثرها أن ويتمان ظل يعيد الكتابة ويراجع النص مرات عديدة حتى وفاته، وهذا ما يفسر اختلاف طبعات الديوان، فالأولى ضمت 12 قصيدة والأخيرة ضمت أكثر من 400 قصيدة.
وفي مقدمة الترجمة العربية الكاملة للديوان يشير مترجمها الشاعر المصري رفعت سلام إلى أن ويتمان هو مؤسس الحداثة الشعرية الأمريكية، بل الشعر المكتوب بالإنجليزية بعامة.
يقول سلام إن "أوراق العشب" ليس ديواناً مفرداً على النمط التقليدي المعروف، بل عمل شعري واحد يتكامل عبر الزمن والكتابة، لذلك أتيح في 9 طبعات متوالية، إلى أن وضع ويتمان بنفسه كلمة النهاية في طبعته الأخيرة، المسماة "طبعة فراش الموت"، التي قام بمراجعتها وأعدها في لحظات حياته الأخيرة دون أن يمتلك أحد اليقين بأنه قد رآها مطبوعة قبل أن يفارق العالم.
وبلغ عدد صفحات الترجمة العربية الكاملة أكثر من 900 صفحة من القطع الكبير.
وتبدو سيرة ويتمان بالغة الإثارة بفضل الخبرة الإنسانية الفريدة التي أتيحت له، فقد ولد لأبوين ينتميان إلى أصول إنجليزية وهولندية، وعاشت عائلته في بروكلين بين عامي 1832 - 1833، وتلقى تعليمه الأولي هناك، لكن ظروف أسرية صعبة حالت دون إكمال تعليمه، فالتحق بالعمل صبياً في مطبعة كانت تطبع الأناجيل والكتب الأدبية ونصوص لشعراء الهند والصين والأسماء المهمة في الثقافة اللاتينية، وقرأ في وقت مبكر أعمال دانتي وشكسبير، ووفقاً لنقاد أعماله فقد أثرت هذه القراءات على شعره في الإيقاع والمضمون والبنية الدرامية
وساعدت معارفه العميقة في الحصول على وظيفة مدرس والتحرر من العمل، وتدريجياً بدأ كتابة المقالات الأدبية وأصبح اسماً بارزاً في الثقافة الأمريكية، لدرجة أنه بعد عام 1841 كان يراسل ويكتب فيما لا يقل عن 10 مجلات في بروكلين ونيويورك.
ويجمع نقاد أعماله على أن الأشعار التي نشرها قبل 1850 كانت تقليدية وهزيلة، والقصص التي نشرها في المجلة الديمقراطية 1841-1845 كانت سطحية ومسرفة في العاطفة.
وخلال تلك السنوات زاد اهتمامه بالشأن العام واتجه للعمل في السياسة، وكان من الرواد الأوائل الذين أرسوا دعائم الديمقراطية الأمريكية، وعبر مجلة "بروكلين إيجل" التي أصبح رئيساً لتحريرها عام 1846 وكانت ناطقة بلسان حال الحزب الديمقراطي، هاجم كل أنواع التعصب والفاشية والديكتاتورية، مؤكداً أنه لا ازدهار أمة إلا بترسيخ الديمقراطية فيها.
وساعدت جولاته في مختلف المدن الأمريكية على اكتشاف ما يسميه النقاد "روح الحدود"، التي تجلت في شعره كما مكّنته الحرب الأهلية الأمريكية التي عاصرها من إدراك المأزق الوجودي للإنسان المعاصر، فقد عمل ممرضاً متطوعاً لخدمة ضحايا هذه الحرب، وروى تجربته في ديوان بعنوان "دقات الطبل" وفي كتاب سردي بعنوان "مذكرات الحرب 1875".
وفي أبريل/نيسان الماضي، ظهرت لأول مرة مجموعة من رسائل الحرب التي كتبها للجنود؛ حيث كان لدى والت ويتمان العديد من المناسبات للعمل كـ"قاعدة أمانات" أو "حامل أسرار" لمَن وثقوا به وأطلعوه على ما في قلوبهم، وتولى كتابة الرسائل نيابة عن الجنود الذين لم يتمكنوا، أو فضلوا عدم الكتابة بأنفسهم.
وتشير مذكراته خلال الحرب عام 1875 إلى أنه كتب مثل هذه الرسائل بشكل متكرر: "عندما أكون مؤهلاً، أشجع الرجال على الكتابة، ونفسي، عندما اتصل بهم، أكتب كل أنواع الرسائل لهم (بما في ذلك رسائل الحب، وأنا سعيد بهذا العطاء الشديد)".
من المفارقات المدهشة أن ديوان "أوراق العشب" الذي خلد اسمه في تاريخ الأدب تسبب في طرده من العمل؛ حيث كان يعمل في سكرتارية المكتب الهندي في وزارة الداخلية الأمريكية، فطرده الوزير على أساس أنه عمل غير أخلاقي وبفضل طابعها الجريء كثيراً ما يوصف بأنه أبوالكتابة الحرة وتحت هاجس الإجادة، مارس ويتمان مع نصه أقصى درجات المراقبة والتلصص وظل يحذف ويضيف في محتويات الكتاب إلى أن مات في نيوجيرسي في عام 1892.
والمقارنة بين الطبعات الأمريكيّة من "أوراق العشب" المنشورة في حياة ويتمان، تظهر هواجسه الفنية تجاه الديوان القلق الذي يعكس صراعات صاحبه.