بريطانيا وهشاشة المؤسسات.. أزمات قيادة وثقة تهدد مستقبل تراس
"استقالات رئيسية من الحكومة البريطانية.. مطالبات باستقالة ليز تراس.. وحديث عن رئيس وزراء فعلي يدير الدفة من خلف أسوار "داونينج ستريت".
هذا هو الوضع السياسي الصعب الذي تعيشه بريطانيا هذه الأيام، والذي يتلاقى مع أزمة اقتصادية وأسوأ أزمة معيشية تعيشها البلاد منذ فترة طويلة، ما يثير التساؤلات حول تحول المملكة المتحدة إلى دولة هشة سياسيا.
فالحكومة الحالية زعيمتها ليز تراس، في قلب مشكلة كبيرة، إذ أدت الفوضى الاقتصادية التي تفاقمت مع تولي الأخيرة السلطة، إلى حدوث هزات عنيفة داخل الحزب الحاكم والحكومة، وحديث عن غياب القيادة الفعالة.
وفي الواقع، وبعد أقل من شهرين من توليها المنصب، يبدو أن تراس في خطر أن تصبح رئيسة الوزراء الأقصر عمرا في تاريخ المملكة المتحدة، وفق كارت مارتن، الخبير في الشؤون البريطانية.
ووصلت تراس إلى منصبها وسط ظروف صعبة للغاية، إذ توفيت الملكة إليزابيث الثانية في غضون أيام قليلة من صعود رئيسة الوزراء، أدى ذلك للدخول في فترة حداد رسمي، وإضفاء صعوبة بالغة على الحكومة الجديدة في أيامها الأولى.
وفاقم ملف الإشراف على انتقال السلطة إلى الملك الجديد، تشارلز الثالث، التحديات الشائكة التي تواجه الحكومة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا والتهديد الاسكتلندي بالانفصال، فضلاً عن أزمات الطاقة والتضخم الحادة.
"الصدمة والرعب"
وفيما كان ينتظر من تراس الحذر في مثل هذه الظروف الشائكة، قدم وزير ماليتها السابق كواسي كوارتنج في 23 سبتمبر/أيلول، "ميزانية مصغرة" جريئة للبرلمان.
وعدت هذه الخطة الجديدة بتحقيق النمو في اقتصاد المملكة المتحدة المتعثر، بالاعتماد على حزمة ضخمة من التخفيضات الضريبية، كانت ستمثل أكبر تخفيض ضريبي في نصف قرن، مع بعض الامتيازات في الغالب للشرائح الأكثر ثراءً من السكان.
لم تكن هذه مفاجأة كاملة، حيث قادت تراس حملتها لرئاسة الوزراء بناء على هذا الوعد، ومع ذلك، كان حجم وسرعة الإعلان عن الخطط الجديدة مذهلين، ما دفع الصحفي في "بي بي سي"، نيكولاس وات، لوصف الأمر بتكتيكات "الصدمة والرعب".
لقد كانت مقامرة جريئة من قبل تراس، لكنها فشلت تمامًا في إقناع الأسواق. في غضون أيام من إعلان وزير المالية، انخفض الجنيه الاسترليني، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في بريطانيا.
في غضون ذلك، تراكمت معدلات الفائدة المرتفعة على شكل مدفوعات رهن عقاري أعلى، لتفاقم بؤس الملايين في المملكة المتحدة
كما عمل صندوق النقد الدولي على حث حكومة المملكة المتحدة على "إعادة تقييم" التخفيضات الضريبية المخطط لها، نظرًا لتسببها في "إذكاء التضخم المتصاعد". فيما اضطر بنك إنجلترا إلى اتخاذ تدابير جذرية، بما في ذلك شراء كمية غير محدودة من السندات الحكومية، لحماية اقتصاد المملكة المتحدة من الانهيار أكثر.
مع تصاعد الضغط والقلق المتزايد بين الناس وأعضاء حزبها المحافظ، لجأت تراس مرة أخرى إلى تدابير جذرية، وأقالت وزير المالية بعد 38 يوما فقط في المنصب.
المزيد من الأزمات
جيريمي هانت النائب والسياسي البارز، تدخل ليحل محل كوارتينج، ويصبح رابع وزير مالية في أقل من أربعة أشهر، إذ شرع على الفور في التراجع عن جميع الإجراءات الموعودة في ميزانية كوارتينج المصغرة.
هذا الدور السريع لهانت دفع الصحفي والكاتب، هاميش ماكراي للقول في مقال بصحيفة إندبندنت "بريطانيا أصبح لديها أيضاً رئيس جديد للوزراء بحكم الأمر الواقع، هو هانت الذي صادف أنه الوزير الجديد للخزانة".
وأكد هانت أن هذا كان ضروريًا لاستعادة الثقة في اقتصاد المملكة المتحدة، لكنه وجه أيضًا توبيخًا لا لبس فيه واستثنائيا لرئيسة الوزراء.
وأوضح أن هانت، السياسي القوي والماهر، "سيتولى قيادة الدفة الحكومية، لأنه سيطلب السيطرة على كثير من الأمور في السياسة المحلية لرسم سياسة مالية قوية، فيما ستكون ليز تراس رئيسة للوزراء بالاسم وحده".
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، تسبب غياب تراس عن البرلمان خلال "سؤال عاجل" حول إقالة وزير المالية السابق، وتهربها من حدث إعلامي مخطط له، في تراجع الثقة في قدرة رئيسة الوزراء على التعاطي مع الأزمة السياسية.
وتفاقمت أزمة الحكومة ورئيسة الوزراء في 19 أكتوبر/تشرين الأول، مع الإعلان عن استقالة وزيرة الداخلية البريطاني، سويلا بريفرمان، بسبب خرق أمني واضح يتعلق بإرسال وثائق عبر بريدها الإلكتروني.
لكن بريفرمان وجهت انتقادات ضمنية لحكومة تراس في بيان الاستقالة، وكتبت "الحكومة بحاجة لمسؤولين يعترفون بالأخطاء، ويتحملون تبعاتها".
وبجانب ضربة الاستقالة، تواجه تراس معارضة من جانب نواب حزب المحافظين في مجلس العموم (البرلمان)، وقد يؤدي خروج بريفرمان إلى المزيد من الأزمات.
سيناريوهات المستقبل
من جانبها، تحاول تراس الآن إنقاذ ما تبقى من سلطتها، ففي مقابلة حديثة مع "بي بي سي"، اعترفت رئيسة الوزراء بارتكاب أخطاء، لكنها ظلت مصرة على أنها ستقود حزبها في الانتخابات المقبلة مطلع 2024، لكن مثل هذا القرار سيكون بيد الحزب.
ومع ذلك، فإن رئيسة الوزراء أصيبت بجروح بالغة وستواجه تحديًا كبيرًا لاستعادة مصداقيتها، بل إن 10% فقط من الناخبين يوافقون على قيادتها للحكومة، فيما يملك 80% وجهة نظر سلبية عنها، وهي نتيجة أسوأ بكثير حتى من بوريس جونسون عندما استقال قبل أشهر.
وداخل الحزب الحاكم، يريد 55% من مؤيديه خروج تراس من السلطة، وفق استطلاع رأي نشر قبل أيام ونقلته وسائل إعلام بريطانية.
وحول سيناريوهات المستقبل، يرى كارت مارتن أن مستقبل تراس مرتبط بموقف حزب المحافظين الذي سيقوم بموازنة وجوده في الحكم في مقابل مخاوفه من عقد انتخابات عامة مبكرة في ظل تراجعه الكبير أمام حزب العمال.
وتابع مارتن أن الحزب يمكن أن يحاول التخلي عن تراس، لكن دون المجازفة بإجراء انتخابات عامة؛ أي عملية استبدال مثلما حدث مع بوريس جونسون، إلا أن هذه العملية تتطلب أن تتقدم تراس باستقالتها.
ومسار الاستقالة هو الخيار الوحيد الآمن لدى المحافظين، لأن لوائح الحزب الداخلية تمنع تحريك تصويت بسحب الثقة من رئيس الحزب في عامه الأول من الحكم.
لكن تراس لم تُظهر أي ميل لتقديم استقالتها حتى الآن، وأخبرت البرلمان في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بأنها "مقاتلة".
في المقابل، تزداد الضغوط على تراس داخل حزب المحافظين بشكل كبير، إذ قال النائب المحافظ كريسبين بلانت إن ليز تراس تفتقر إلى "المعرفة الذاتية" لتدرك أنها "لم تكن لديها القدرة" بالأساس على أن تكون رئيسة للوزراء ولم يكن ينبغي أبدًا أن تقدم نفسها للمنصب في المقام الأول.
بلانت طالب تراس في تصريحاته الصحفية بتقديم استقالتها اليوم.
أما في أروقة المعارضة، فقال النائب عن حزب العمال كريس برينت في تغريدة على "تويتر" تابعتها "العين الإخبارية"، "إذا كان السبب الوحيد وراء عدم قيام حزب المحافظين بإزالة تراس هو الخوف من انتخابات عامة، فإنهم يتصرفون لصالح الحزب وليس المصلحة الوطنية. يمكن للناخبين رؤية ذلك وسوف ينتقمون بشدة".
هذا الواقع الصعب يثير تساؤلات حول انزلاق المملكة المتحدة في أزمة سياسية صعبة تحركها مؤسسات هشة، وتراجع الثقة في شاغلي المناصب العامة، وفق مراقبين.
وفي هذا الإطار، كتب الباحث تيم ريدوت على "تويتر": "نحن الآن في خطر كبير: الحرب في الخارج، والاضطراب الاقتصادي في الداخل، والخدمات العامة في حالة من الفوضى، وأزمة المناخ تزداد حدة. وأين "حكومتنا"؟".
وتابع "يجب على تراس الاستقالة والمغادرة اليوم، ليحل محلها رئيس وزراء مؤقت حتى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة".