دون إحداث ثورة تغييرية في المناهج التعليمية في دولنا العربية تحديداً، وإلا فإنّ الهوة المعرفية بيننا وبين دول النخبة ستتسع كثيرا.
كثيرٌ مِنّا يذكر قصة زعيم إحدى قبائل الهنود الحمر الذي قام بشراء سيارة كاديلاك سوداء؛ لأنها كانت حُلُم حياته، وخلال سنتين من قيادتها في مقاطعته الريفية البعيدة عن صخب المدن لم يقم بحادث أو تجاوز للقوانين كما أنه لم يَعُد للخلف أبداً، لأنه ببساطة كان يستخدم عشرة من الجياد القوية لسحب السيارة من الأمام لجهله بقدرتها على التحرك بمفردها!
التقنيات متوافرة لكن المهم ليس توافرها فقط، وإنما طريقة الاستفادة منها، والأدوات كثيرة لكن اقتصار تصنيعها على طرف آخر يجعلك دوماً في الموقف الأضعف، والمستقبل لن يلين قياده إلا لأولئك الذين يملكون كل الموارد وأولها المعرفة، فمن دون معرفة لن يذهب أي مجتمعٍ بعيداً في سباق التنافسية، ومن دون إحداث ثورة تغييرية في المناهج التعليمية في دولنا العربية تحديداً، وإلا فإنّ الهوة المعرفية بيننا وبين دول النخبة ستتسع كثيراً، وهي هوة تجرّ وراءها هوّات أخرى تتعلق بالاقتصاد وإدارة المؤسسات والتنمية المجتمعية، وكلما تأخرنا في اتخاذ خطوات جريئة و«استثنائية» كان اللحاق بالكبار متعسراً، هذا إن لم يغلق لنا المستقبل أبوابه قبل أن نقترب منه!
مبادرة "مدرسة" الرائدة هي مشعل يستنير به من يريد فعلاً أن يتغيّر واقعه لاستعداده لبذل الجهد وإفناء الوقت في ما يستحق، وهي دليل دربٍ صادق لمَن كان ينتظر مَن يرشده للطريق الصحيح ويزيح من أمامه عوائق الرؤية المنعدمة
في مثل هذه المراحل المفصلية من عُمر الدول، وعندما تقف الطموحات والأحلام على مفترق طُرق تكون الحاجة إلى قيادات فذّة قادرة على خلق شيء من لا شيء، وتُفني وقتها ليس في محاولات متعثرة لترحيل المشاكل والهرب للأمام وافتعال سيناريوهات تُلهي الناس عن الأهم، ولكن تُفني وقتها في البحث عن الحلول والتنقيب عن الأفكار الخلاقة القادرة على قلب المعادلات الحالية، وتدعم المبدعين القادرين على رفدها برؤى غير مسبوقة، فالأمور لا تتغيّر من تلقاء نفسها، والوضع العَسِر لن يتيسّر عُسْره بالأمنيات أو تعليقه على شمّاعة «بُكرا يحلّها ألف حلال»، فهذا الـ«حلّال» لا بُد من أن يأتي سريعاً قبل أن «يفوت الفوت»، فإن كنتَ فرحاً بمشيك في الطريق الصحيح فتأكد أنّ منافسيك يجرون بأسرع ما لديهم على الطريق ذاته، وكلما تأخر الوقت على التغيير المطلوب صَعُب الحل وتعسّرت ظروفه!
في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أُمّتنا العربية خرجت لنا مبادرات متتابعة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وفقه الله، كان جماع أمرها على إشعال مشاعل يستنير بها السائرون في هذا الليل المطبق على العديد من شعوب العرب، والتي كان آخرها مبادرة «مدرسة» بتوفير 5000 درس تعليمي بالفيديو، تشمل مواد الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والعلوم العامة، من مرحلة رياض الأطفال وحتى الصفّ الثاني عشر، وبما يخدم أكثر من 50 مليون طالب عربي حول العالم، هذه الفيديوهات التعليمية تم إعدادها استناداً إلى أحدث مناهج التعليم العالمية، ضمن خطة تعريب وإنتاج مدروسة لأفضل مخرجات المناهج التعليمية العالمية الرائدة وذلك من خلال مبادرة سابقة لسموه أُطلقت عام 2017 تُدعى «تحدي الترجمة» والتي كانت بدورها أكبر مشروع ترجمة «علمي» لتعريب آخر ما توصلت له المعرفة والعلم الحديث؛ لردم الهوة المعرفية بين العرب ودول النخبة العالمية.
هذه المبادرة العظيمة هي كما ذكرنا مشعل نور في ليلٍ مُطبق، لكنّ هذا المشعل لن يأخذ بيد أحد جُبِل على السلبية وامتهن عادة لعن الظروف وتحميل كل ما ومَن حوله مسؤولية ظروف معيشته الصعبة، فالسلبيون والمتماوتون والنائحون نواح العجائز ليس بالإمكان تغييرهم؛ لأنهم ببساطة لا يريدون التغيّر، هم يريدون أن يصل إليهم كل شيء وهم مستلقون في أحضان الاتكالية، تماماً كحال بني إسرائيل عندما قالوا لموسى عليه السلام: «قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهبْ أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون»، هم يريدون كل شيءٍ جاهزاً وذلك محال، فكل طموح يحتاج لما يوازي حجمه من الجهد، فكلما كَبُرَ الطموح كان لزاماً أن يكون الجهد كبيراً بالتبعية!
مبادرة "مدرسة" الرائدة هي مشعل يستنير به من يريد فعلاً أن يتغيّر واقعه لاستعداده لبذل الجهد وإفناء الوقت في ما يستحق، وهي دليل دربٍ صادق لمَن كان ينتظر مَن يرشده للطريق الصحيح ويزيح من أمامه عوائق الرؤية المنعدمة، وكنانة خيرٍ كثيرٍ لمن كان ينتظر أن يُمَد بأدواتٍ تساعده على قلب معادلة حياته الصعبة وزرع أملٍ في قلبه بأنّه يملك كل ما يحتاج لجعل مستقبله مضيئاً كما يشاء.
كان «بو راشد» ولا يزال قائداً للتغيير الفعال في المنطقة العربية، ولم يتوقف يوماً عن تدشين المبادرات النوعية وإطلاق المشاريع عالية الفاعلية لتغيير واقع العرب وردم الهوة بينهم وبين دول العالم المتقدم، فالقائد الحق هو من يستطيع إنارة الطريق لمن حوله، ومن يجعل الناس تؤمن بأنّ ذاك الأمل البعيد ممكن التحقيق، وهو في موازاة ذلك قدّم لهم نموذجاً حياً لما ينادي به متمثلاً في دبي التي أصبحت واحدة من ألمع مدن العالم ومرادفاً معتاداً للإبهار والنجاحات الاستثنائية، لكنه النجاح الذي استغرق سنين من التخطيط المتقن والعمل الجبار ومواجهة التحديات بقلب أسد، فالدنيا لن يلين قيادها للمتناوم ولن تُعطي زمامها للنائحين، وحدهم العظماء من يخلقون الفارق فعلاً وواجبنا التأسي بأفعالهم لا التأثر بأقوالهم فقط، فمن أراد النجاح فلا يكفيه أن يحلم به، بل لا بد من أن يستميت في العمل لتحقيقه!
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة