يقرع بابا الفاتيكان جرس التحذير من أن غياب التضامن والمحبة يولدان الظلم الحقيقي
مع حلول عام على توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية على أرض الإمارات العربية المتحدة، وبشراكة بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور الطيب، يمكن القطع بأن التبعات الإيجابية والارتدادات الإنسانية للوثيقة وما فيها من رؤى إيمانية ووجدانية وإنسانية خلاقة تتوالى على عالمنا المعاصر، وليس أدل على صدقية ما نقول به من إعلان فرنسيس عن لقاء اسيزي القادم في مارس/آذار المقبل، والذي يتمحور حول ما يمكننا أن نسميه "اقتصاد الأخوة"، كأحد إفرازات الوثيقة التي تدفع في طريق تلاحم الأخوة من البشر، من أدنى الأرض إلى أقصاها ومن الشمال إلى الجنوب.
الأنباء الواردة من حاضرة الفاتيكان تشير إلى أن "اسيزي" مدينة السلام، تلك التي خرج منها فرنسس الناسك والمتصوفوالمتصوف الأشهر في تاريخ المسيحية الغربية في القرن الثاني عشر الميلادي، سوف يتنادى إليها بدعوة من الحبر الأعظم نحو ألفي اقتصادي ورجل أعمال من أرجاء المسكونة كافة.
يقرع بابا الفاتيكان جرس التحذير من أن غياب التضامن والمحبة يولدان الظلم الحقيقي، في حين أن التنمية البشرية المتكاملة الحقيقية لا يمكنها أن تزدهر إلا عندما يتم إشراك جميع أفراد الأسرة البشرية في البحث عن الخير العام والمساهمة فيه
حكما نحن لسنا أمام "دافوس" أخرى، ذلك أن المدعوين ليسوا من كبار رجال المال والاقتصاد في العالم، كما أنهم ليسوا من المليارديرات الذين يديرون حركة الاقتصاد العالمي، بل هم من رجال الأعمال الشباب صغار السن، أي أنهم رهان فرنسيس على تغيير شكل العالم المعاصر الذي باتت فيه الرأسمالية المتوحشة هي العملة السائدة، وضاعت الأخوة الإنسانية بسبب السعي لتراكم الثروات والتوجه لتسنم قمة العالم.
الهدف من اللقاء الذي أعلنه بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، الفقير وراء جدران الفاتيكان، هو "دراسة وممارسة اقتصاد مختلف، اقتصاد يجعل الإنسان يعيش ولا يموت، اقتصاد يمارس الشمل وليس الإبعاد، اقتصاد يراعي الإنسانية ويعتني بالبشرية بدون أن ينهبها".
طموحات فرنسيس في هذا الإطار مدفوعة بآرائه المعروفة بشأن الاقتصادي الكوسمولوجي وما يعتريه، الأمر الذي دعا البعض لا سيما من اليمين الأمريكي المتشدد إلى اتهامه غير مرة بأنه بابا "شيوعي"، لا سيما أنه ومنذ أن ارتقى السدة البطرسية لم يتوان يوماً في الدفاع عن الفقراء، والتنديد بالرأسمالية العالمية التي اتهمها مراراً تلميحاً أو تصريحاً، بأنها تنهش من لحم المعدمين حول العالم.
ولعل فرنسيس البابا اللاتيني الأول في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، أكثر تاثراً بما تعيشه قارة أمريكا اللاتينية وبلده الأرجنتين بنوع خاص، ولهذا فقد حرص على الدوام أن يطلب من كهنته رؤية العالم من خلال عيون الفقراء، ومن خلال العيش بينهم، وحين حل به الاختيار الإلهي خليفة لماربطرس، استحضر معه النهج نفسه إلى البابوية، وقد جادل فرنسيس طويلاً، بأن عدم المساواة يخلق "حالة من الخطيئة الاجتماعية"، ومعتبراً أن "البطالة هي نتيجة لاختيار العالم، ولنظام اقتصادي أدى إلى هذه المأساة".
في كلمته التي وجهها البابا فرنسيس إلى المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير في دافوس، تبدت روح وثيقة الأخوة الإنسانية من بين ثنايا وحنايا السطور، لا سيما حين تحدث عن الإنسان كمحور وجوهر السياسة العامة
تقول كلمات الرسالة والتي كان لها كثير الأثر عند رواد دافوس "إن الرؤية المسيطرة، والتي يجب ألا ننساها أبدا، هي أننا جميعا أعضاء في أسرة بشرية واحدة، ومن هذه الحقيقة ينبع الواجب الأخلاقي بالاعتناء ببعضنا بعضا، تماما كالمبدأ المرتبط بها والمتمثل في وضع الشخص البشري، بدلا من البحث عن السلطة أو الربح، في محور وجوهر السياسة العامة.
على من يقع عبء اقتصاد الأخوة إن جاز لنا أن نطلق عليه هذا المصطلح؟
يرى الرجل ذو الثوب الأبيض أن هذا الواجب يقع على عاتق قطاع الأعمال والحكومات على حد سواء، وهو أمر لا غنى عنه في البحث عن حلول منصفة للتحديات التي نواجهها.
من هنا تأتي انطلاقة فرنسيس في الآفاق الاقتصادية المعولمة؛ إذ يوصي بأنه من الأهمية بمكان أن نذهب أبعد من المقاربات التكنولوجية أو الاقتصادية القصيرة المدى، وأن نأخذ بعين الاعتبار البعد الأخلاقي في البحث عن حلول للمشاكل الحالية أو أن نقترح مبادرات للمستقبل.
ينظر فرنسيس من زاوية وثيقة الأخوة إلى الآخر، أي آخر على أنه أخ، فيما تؤدي الرؤى المادية أو المنفعية، المخفية في بعض الأحيان، أو التي يتم تسليط الضوء عليها في أحيان أخرى، إلى ممارسات وهياكل تحركهما مصالح خاصة ترى الآخرين عادة كوسيلة لبلوغ غاية ما، مما يسبب غياب التضامن والمحبة.
يقرع بابا الفاتيكان جرس التحذير من أن غياب التضامن والمحبة يولدان الظلم الحقيقي، في حين أن التنمية البشرية المتكاملة الحقيقية لا يمكنها أن تزدهر، إلا عندما يتم إشراك جمع أفراد الأسرة البشرية في البحث عن الخير العام والمساهمة فيه.
لقاء اسيزي يأمل فرنسيس من خلاله في التوصل إلى "معاهدة"، لتغيير شكل الاقتصاد الحالي ومنح اقتصاد الأيام القادمة روما من ملامح الأخوة الحقيقية.
في هذا السياق قد يقول قائل: ما الذي يملكه بابا الفاتيكان، الأرجنتيني الفقير، من أدوات لكي يغير حال اقتصاد العالم؟
السؤال رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لنظيره الذي أطلقه الزعيم السوفيتي الراحل "جوزيف ستالين"، حين تندر على البابا بيوس الثاني عشر بقوله: "كم فرقة عسكرية يمتلكها البابا"، وأثبتت الأيام لاحقا أن البابا الخلف، يوحنا بولس الثاني، سيكون المسمار الأول الذي يدق في نعش الشيوعية.
بالضبط مع القياس نفسه، نعم لن يغير فرنسيس حال الاقتصاد العالمي ما بين 26 و28 مارس المقبل، لكنه يتجرأ على الأمل بصدق وموضوعية، من عند النظر إلى البشر كأخوة كما في الوثيقة الإماراتية الشهيرة، وصولا إلى عقول وقلوب اقتصاديين شباب بعضهم مرشح لجائزة نوبل، أي أنه يفتح طريق الأمل واسعا لشباب الغد الذين يؤمنون بأن المؤمنين أخوة، والقادرين على تغيير مسارات ومساقات عالمنا المختلة موازينه.
فرنسيس بابا بدرجة مفكر إنساني، يمهد الدروب أمام عالم أكثر إنسانوية، ويحفز المنتديات الاقتصادية حول المسكونة بأكملها من أجل أن تأخذ بعين الاعتبار المسؤولية الأخلاقية العالية لكل واحد منا في البحث عن التنمية المتكاملة لجميع أخوتنا وأخواتنا، بما في ذلك الأجيال القادمة، ويدعو الكل لأن يصبحوا واحدا في التضامن، لا سيما مع الأشد عوزا والذين يختبرون الظلم الاجتماعي والاقتصادي، والذين تتعرض حياتهم للتهديد.
مرحبا بثمار وثيقة الأخوة في عامها الأول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة