الزيارة التي سيقوم بها البابا فرنسيس إلى الإمارات تستدعي البحث عن مآلات العلاقة الحديثة بين الكاثوليكية والعالمين العربي والإسلامي.
تستدعي الزيارة التي سيقوم بها البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في الأيام القليلة المقبلة، البحث عن بعض من مآلات العلاقة الحديثة بين الكاثوليكية والعالمين العربي والإسلامي في القرن العشرين وما تلاه من عقدي القرن الحادي والعشرين، من أجل تبيان معالم وملامح المسيرة بين أكبر كتلتين إيمانيتين حول العالم من جهة الأديان الإبراهيمية بنوع خاص.
كان رؤساء حكومات ووزراء الدول الإسلامية خلال زياراتهم لروما يولون أهمية للسماح باستقبالهم من طرف ممثلي الفاتيكان، وليس من قبل نظرائهم من السياسيين الإيطاليين فحسب
الشاهد أنه يمكن للباحث والمؤرخ في شؤون وشجون الفاتيكان بنوع خاص أن يعود تحديدا إلى عام 1939، وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت ذاته كان حبر روماني جديد يتم تجليسه على كرسي ماربطرس في الفاتيكان، وهو الكاردينال الإيطالي "أوجينو باشيللي"، الذي سيعرف لاحقا باسم البابا بيوس الثاني عشر، والذي تم انتخابه بابا للمدينة المقدسة روما في 2 مارس/آذار من عام 1939، خلال الـ" كونكلاف" أي مجمع الكرادلة الذي لم يستمر طويلا في الكنيسة السيكستينية "نسبة إلى البابا سيكستوس"، ليكون البابا الجديد، ثم تتويجه بعد مرور عشرة أيام بالقلنسوة الثلاثية، التي ترمز إلى سلطته كأسقف لروما.
في تلك الفترة لم تكن هناك مواجهات أو مجابهات بالمرة بين العالمين الغربي والإسلامي على أساس ديني، ولم يكن مصطلح صدام الحضارات الذي استخدمه صموئيل هنتنجتون قد طفا على سطح الأحداث، في محاولة تعيد للأذهان ذاك التقسيم القديم بين عالم الخير وعالم الشر، أو فسطاط الحرب ودار السلم.
قبل ستة أشهر تقريبا من انفجار الحرب الكونية الثانية، جلس بيوس الثاني عشر على الكرسي الرسولي ليضحى الأب الأقدس لملايين الكاثوليك حول العالم، وقد كانت هناك صراعات قائمة بالفعل بين الكاثوليكية من جهة، والإلحاد والهمجيات المعادية للإيمان من جهة ثانية، عطفا على بربريات مناهضة للأديان عامة، ولم تكن هناك إشكالية ما مع العالم الإسلامي.
انشغل الفاتيكان والعالم أجمع طوال الأعوام من 1939 سنة انتخاب البابا إلى عام 1945 بالحرب التي قضت على أوروبا بشكل بالغ السوء، وفي القلب منها كان البابا عرضة لسهام الاضطهاد والتشهير من قبل الجماعات اليهودية الأوروبية التي اتهمته بأنه تقاعس عن إنقاذ اليهود من المحارق؛ الأمر الذي أثبت غالبية -إن لم يكن جميع- المؤرخين زيفه، وأماطوا اللثام عن الحقيقة المتصلة بكون بيوس الثاني عشر هو أكثر من قدم الحماية لليهود الفارين من حكم النازي.
غير أنه مع حلول عام 1947 كانت علاقة جديدة تنشأ بين الفاتيكان والعالم الإسلامي؛ ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه أقام البابا بيوس كاول شخصية قانونية دولية معترف بها عالميا، علاقات دبلوماسية دائمة مع أول دولة إسلامية، وهي مصر، وقبل ذلك بقرن من الزمن، أي في عام 1839 ميلادية، كان محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، قد أرسل وفدا إلى روما؛ لأنه كان يعي الوزن الدولي للبابوية.
استغل البابا بيوس الثاني عشر بدوره رغبة الدول في العالم الثالث، والعهدة هنا على الراوي الكاتب الألماني "هاينز يواكيم فيشر" في مؤلفه الشهير "بين روما ومكة.. الباباوات والإسلام"، في الاعتراف الدولي؛ فمنذ فقدان دولة الكنيسة، أي فقدان سيطرة الكنيسة سياسيا على الدول المسيحية، تدعمت السلطة الأخلاقية المعنوية للباباوات؛ ما شجع الحكومات في جميع أنحاء العالم على السعي إلى اعتراف الفاتيكان بها، ولهذا يذهب اللاهوتي والباحث الكاثوليكي الأمريكي الشهير "جورج ويجل"، إلى أن البابوية وإن فقدت أملاكها، فإنها لا تزال قوة إقناع معنوية وسلطة أدبية رفيعة القدر.
كان الاعتراف من قبل الحبر الأعظم، مدعما بتبادل العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان، يعد في كثير من الأحيان خاتمة للتطبيع الدولي مع الدول الناشئة التي تحررت من القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، وأصبحت مستقلة.
وهكذا سارعت للسير على خطى مصر دول إسلامية أخرى مثل إندونيسيا وسوريا وإيران وتركيا وباكستان، والمملكة الأردنية الهاشمية، التي كانت في ذلك الوقت تشرف على الأماكن المسيحية المقدسة.
ومع حلول عام 1951 أجرى البابا بيوس الثاني عشر لقاء سنة 1951 مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عبدالرحمن عزام باشا، الذي لخص لاحقا نتيجة لقائه البابا قائلا: "إن العرب أيضا يرون أن رئيس الكنيسة الكاثوليكية، انطلاقا من رسالته العالمية، يعد من أبرز المدافعين عن ذلك التراث الروحي الأعلى والأثمن، الذي تتأسس عليه عقيدة الإسلام وعقيدة المسيحية على حد سواء؛ فالتشارك الروحي بين المسيحية والإسلام سيقود إلى إقامة جبهة مشتركة، تشمل أكثر من نصف البشرية".
كانت تلك مرحلة أولى من علاقة الكاثوليكية بالعالم الإسلامي في القرن العشرين، وهذا يعني أن القائمين على الجانبين في ذلك الوقت أدركوا أن الأهداف المشتركة مع الاعتراف الموحد بإله واحد في مواجهة الإلحاد المتنامي، كما كان الحال في معسكر السيطرة الشيوعية، تعد ذات قيمة تتفوق على ما يفصل بين الأديان من حواجز، بالإضافة إلى أن الدول الإسلامية كانت تثمن خدمات الوساطة الحسنة لدبلوماسية الفاتيكان في عهد بيوس الثاني عشر، سواء فيما يخص الصراع على فلسطين بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، أو فيما يتعلق بحرب الجزائر بين فرنسا وجبهة التحرير الوطنية.
كان رؤساء حكومات ووزراء الدول الإسلامية خلال زياراتهم لروما يولون أهمية للسماح باستقبالهم من طرف ممثلي الفاتيكان، وليس من قبل نظرائهم من السياسيين الإيطاليين فحسب.
ومرد ذلك أن الظهور في صورة مع البابا كانت له جاذبية إنسانية وأهمية سياسية، بناء على ذلك قام البابا بيوس الثاني عشر باغتنام هذه الفرص التي تتيحها العلاقات الدولية، إلا أن الوقت لم يكن قد نضج لأكثر من هذا وقتها، وهو ما سيحين دوره عام 1958 أي بعد وفاته وتولي بابا آخر مقاليد رئاسة الكرسي الرسولي وبدء تدشين مرحلة أشد عمقا من الانفتاح والحوار والجوار مع العالم الإسلامي عبر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
على أن بيوس الثاني عشر ترك أساسا قويا تاريخيا في منتصف القرن الماضي بين الكاثوليكية والإسلام وبقية الأديان؛ ففي منتصف الحرب العالمية الثانية، وبمناسبة عيد العنصرة عام 1943، ألقى كلمة مثل الكثير من كلماته، التي قلما سمعها أحد، ناهيك عن تجاوبه معها، لكنها عدت وصية حكيمة لجميع الأديان؛ إذ قال: "ليس بالهدم، وإنما بالتطوير والوئام يكون الخلاص والعدل؛ فالعنف كان يهدم دائما ولا يبني أبدا، يثير مشاعر الهلع ولا يهدئها مطلقا، ويقذف دائما بالبشر إلى الضرورة القاسية، التي تجعلهم بعد المحن الأليمة، يسيرون على أنقاض الفتنة لإعادة البناء بصعوبة بالغة".
رحل بيوس الثاني عشر وسيأتي من بعده يوحنا الثالث والعشرين، ثم بولس السادس، ليكتب كل منهما فصلا جديدا من الأخوة والمودة وبناء الجسور مع العالم الإسلامي.. ماذا عن ذلك؟
إلى مقال قادم ضمن هذه السلسلة التاريخية بإذن الله
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة