الإمارات وسياسات الانفتاح على الآخر
لقد أصبحت الإمارات بمثابة نموذج يُحتذى به في التسامح والتعايش المشترك، ونجحت في احتضان واستيعاب مختلف الديانات والثقافات.
تأتي زيارة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية لدولة الإمارات في وقت مهم وحاسم، ففي الوقت الذي تتصاعد فيه محفزات الفكر المتطرف في المجتمعات العربية، وتسعى فيه التنظيمات المتطرفة إلى تعميق الانقسام داخل المجتمع، من خلال شيطنة الآخر المختلف دينيا أو ثقافيا أو اجتماعيا والدفع نحو التعامل معه بوصفه خطرا محتملا، يأتي سعي دولة الإمارات إلى صياغة سلسلة إجراءات وسياسات تعزز من خلالها قيمة وثقافة الانفتاح على الآخر وقبوله، والتسامح مع الاختلافات الثقافية والدينية والاجتماعية في مجتمع يسكنه أكثر من 200 جنسية من مختلف دول العالم بتناغم وتجانس، وهو ما يعد واحدا من مسارات عدة انتهجتها الحكومة الإماراتية بهدف مكافحة الفكر المتطرف والسعي نحو "صناعة الإنسان" ليس فقط في المجتمع الإماراتي، وإنما تمتد تلك المساعي لتشمل المجتمعات العربية بشكل عام.
وقد أعلن قداسة بابا الفاتيكان زيارته لدولة الإمارات تلبية لدعوة من الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في حوار عالمي بين الأديان حول "الأخوة الإنسانية"، وقد صرح المتحدث باسم الفاتيكان غريغ بوركي بأن "الفكرة الرئيسية في الزيارة ستكون اجعلني قناة سلامك، وهذه هي نية البابا من الذهاب إلى الإمارات، كيف يمكن لكل أصحاب النوايا الحسنة أن يعملوا معا من أجل السلام، سيكون ذلك هو الموضوع الرئيسي للزيارة"، التي تعد أول زيارة للبابا فرنسيس لمنطقة الخليج العربي، ويعقد في إطارها لقاء يجمعه بفضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، بوصفه رئيس مجلس حكماء المسلمين الذي يتولى تنظيم لقاء القيادات الروحية العالمي الذي يشارك فيه أكثر من 600 شخصية تمثل مختلف الأديان حول العالم.
وعلى الرغم من الدعوات العديدة التي تلقاها البابا من مختلف دول العالم فإن قبوله للدعوة الإماراتية يأتي للتدليل على أهمية ومحورية الدور الإماراتي من جهة، ويؤكد ما يتمتع به المجتمع الإماراتي داخليا من سلام مجتمعي ونبذ للفكر المتطرف، وقد علقت وكالة "رويترز" على الزيارة بوصفها تظهر الأهمية الأساسية التي يعطيها قداسة البابا فرنسيس للحوار بين الأديان، موضحة أن اختياره الإمارات لزيارتها يحمل رمزية كبيرة، نظرا لما تمثله من مركز عالمي للوسطية والاعتدال، وقد علق الشيخ محمد بن زايد على الزيارة عبر "تويتر" قائلا: "يسعدنا في دولة الإمارات الترحيب بزيارة قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، الذي يعد رمزا عالميا من رموز السلام والتسامح وتعزيز روابط الأخوة الإنسانية. نتطلع إلى زيارة تاريخية، ننشد عبرها تعظيم فرص الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب.. ازدهار السلام غاية تتحقق بالتآلف وتقبل الآخر"، ومن هنا يبدو التأكيد المتكرر والدؤوب على أهمية الانفتاح وقبول الآخر في دولة الإمارات، الذي يأتي نتيجة قناعة قادتها بأهمية سلك سبل غير تقليدية لبناء مجتمع متماسك وقادر على التعايش وتقبل الاختلاف.
لا شك في أن اختيار البابا للإمارات بوصفها الوجهة التي يخاطب على أرضها المجتمع الدولي بمختلف طوائفه وأديانه يبعث برسالة مباشرة تدلل على ما تتمتع به الإمارات من مميزات دعمت الارتقاء الثقافي لأفراد المجتمع، والتنوع الإنساني المتناغم، والقدرة على التعايش والتأقلم بل والاندماج مع الآخر، هذا الاندماج يأتي كمحصلة طبيعية لبيئة محفزة محكومة بسياسات تجرم كل ما هو متعلق بالعنف والتعصب وتقدس القيم الإنسانية، وتسعى إلى بناء الإنسان، وهو ما أظهرته العديد من المشروعات والمبادرات التي يتم إطلاقها والتي تهدف بصورة رئيسية إلى الارتقاء بالإنسان ودعم أفقه واتساع آفاقه الفكرية، ليتعامل مع التعددية والاختلاف بتسامح، وتأتي سياسات تعزيز الانفتاح على الآخر استنادا إلى عدد من الركائز الأساسية، نذكر منها ما يلي:
ضمان ودعم حرية المعتقد وإفساح المجال لمختلف الديانات لإقامة شعائرها وممارسة قناعاتها دون حظر أو تقييد، وتوجد في دولة الإمارات حاليا 76 كنيسة ودار عبادة للديانات والعقائد المختلفة، بعضها تبرعت لها الدولة بأراض لإقامتها، وتأسست أول جمعية مسيحية بدولة الإمارات في عام 1968، وفي يونيو/حزيران من عام 2017، أعادت أبوظبي تسمية أحد أشهر مساجدها ليكون مسجد "مريم أم عيسى"، وقد أوردت مجلة "كروكس" الأمريكية في 12 يناير/كانون الثاني 2019 ملامح عن حياة المسيحيين في الإمارات العربية المتحدة، وما تعنيه الزيارة بالنسبة للمسيحيين والمسلمين، حيث علقت بأن "المسيحيين الذين يعيشون في دولة الإمارات والقادمين من جميع أنحاء العالم يحيون بحرية وأمان كبيرين"، ولا شك في أن الإمارات أصبحت نموذجا يحتذى به للتعايش، استنادا إلى ارتكازها على القيم الإسلامية المعتدلة ونبذها للتطرف، وقد نظمت الإمارات العديد من المؤتمرات والفعاليات التي تعكس قيم الحوار بين الأديان، كان آخرها ملتقى تحالف الأديان من أجل أمن المجتمعات في دورته الأولى الذي احتضنته أبوظبي وشارك فيه نحو 450 قائدا من قادة الأديان، وأبرز رجال الدين في العالم، وهو ما جعلها بمثابة موقع تتلاقى فيه شعوب العالم باختلاف ثقافتهم ودياناتهم، وهو ما جعلها شريكا أساسيا في اتفاقيات ومعاهدات دولية عدة ترتبط بنبذ العنف والتطرف والتمييز العنصري.
وقد أصدرت الإمارات في عام 2015 قانون مكافحة التمييز والكراهية الذي يقضي بتجريم كل أشكال ازدراء الأديان والمقدسات وخطابات الكراهية والتكفير، كما يحظر القانون ويجرم أشكال التمييز على أساس الدين أو العقيدة أو الطائفة أو المذهب أو الأصل أو العرق أو اللون، ويضع عقوبات مشددة لذلك، ويجرم القانون الجديد كل قول أو فعل يدعو إلى إثارة الفتن والنعرات أو استغلال الدين.
• مؤسسة القيم: في الوقت الذي يتداول فيه المفكرون والباحثون قضايا القيم وتحويلها من معانٍ ذات طابع نظري ومثالي إلى إجراءات تطبيقية على أرض الواقع، وتتصاعد الدعوات التي ترجح التناقض بين القيم والسياسات في مختلف دول العالم وصعوبة التوفيق بينهما، جاءت الإمارات لتمثل نموذجا للدولة التي تصيغ سياسات فعلية تحاول من خلالها تحويل القيم من مجرد كونها مفاهيم نظرية إلى واقع ملموس، حيث رسخت لما يمكن أن نطلق عليه "مأسسة القيم" أو منح القيمة طابعا مؤسسيا يضمن متابعة تفعيلها على أرض الواقع.
• محورية التسامح في السياسة الإماراتية: لقد أعلنت دولة الإمارات أن عام 2019 سيكون "عامًا للتسامح" في البلاد، بهدف تعزيز الدور العالمي الذي تؤديه الدولة كعاصمة للتعايش والتلاقي الحضاري، إذ سيشهد "عام التسامح" التركيز على 5 محاور رئيسية؛ على رأسها طرح تشريعات وسياسات تهدف إلى مأسسة قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي، وتعزيز خطاب التسامح وتقبل الآخر من خلال مبادرات إعلامية هادفة، وذلك في إطار تعميق قيم التسامح والانفتاح على الثقافات والشعوب في المجتمع من خلال التركيز على الأجيال الجديدة، وهو ما سيساهم في ترسيخ مكانة دولة الإمارات كعاصمة عالمية للتسامح.
ولم تكن مبادرة "عام التسامح" هي الأولى في هذا الاتجاه، فغالبا ما يتم النظر إلى تعزيز قيم التسامح داخل المجتمع بوصفها واحدة من الأركان الأساسية التي تقوم عليها دولة الإمارات التي عملت على استحداث منصب وزير دولة للتسامح في فبراير/شباط من عام 2016، لترسيخ قيم التسامح والتعددية والقبول بالآخر المختلف، وفي يونيو/حزيران 2016 اعتمد مجلس الوزراء البرنامج الوطني للتسامح، بهدف إظهار الصورة الحقيقية للاعتدال، واحترام الآخر، ونشر قيم السلام والتعايش، إذ ارتكز البرنامج على 7 أركان رئيسية هي: الإسلام، والدستور الإماراتي، وإرث زايد والأخلاق الإماراتية، والمواثيق الدولية، والآثار والتاريخ، والفطرة الإنسانية، والقيم المشتركة، وذلك من خلال فرق عمل تتعاون مع الجهات ذات العلاقة، وتعمل على خمسة محاور رئيسية؛ هي تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح، وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء المجتمع، وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف، وإثراء المحتوى العلمي والثقافي، والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز التسامح وإبراز الدور الرائد للدولة في هذا المجال.
وفي يونيو/حزيران عام 2017، أصدر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي قانونًا بإنشاء المعهد الدولي للتسامح، وهو الأول من نوعه في المنطقة، ويتضمن إطلاق جائزة تسمى "جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للتسامح". وهدف إنشاء المعهد الدولي بث روح التسامح في المجتمع، وبناء مجتمع متلاحم، وتعزيز مكانة دولة الإمارات كنموذج في التسامح ونبذ التطرف وكل مظاهر التمييز بين الناس بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة، إلى جانب تكريم الفئات والجهات التي تسهم في إرساء قيم التسامح وتشجيع الحوار بين الأديان، ويوجه المعهد نشاطه إلى تأهيل قيادات وكوادر عربية شابة تؤمن بقيمة التسامح والانفتاح والحوار بين الأديان والثقافات.
• تعزيز التنوع الثقافي: وهو أحد محاور الاهتمام الخمسة التي سيتم التركيز عليها في "عام التسامح"، وذلك من خلال دعم وتشجيع الارتقاء الفني والثقافي كأداة لتعزيز قبول الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، على سبيل المثال لم يأت الجهد الذي بذلته حكومة أبوظبي في إنشاء "متحف اللوفر" من فراغ، فهو خطوة من سلسلة خطوات تهدف إلى الاعتماد على الفن والثقافة والفكر في تنمية وتطوير الإنسان، وهو ما يسهم بصورة مباشرة في جعله أكثر انفتاحا على الثقافات والفنون المختلفة التي تصب بلا شك في صالح الارتقاء بقدراته، حيث جاء تصميم المتحف، ليحتضن مختلف التعبيرات الفنية من جميع الحضارات والثقافات التي نشأت منذ فجر التاريخ حتى وقتنا الحاضر، وتأتي الأعمال المعروضة في المتحف من مجتمعات وثقافات متنوعة من جميع أنحاء العالم، وتسلط الضوء بشكل خاص على الموضوعات العالمية والمشتركة، بهدف إبراز الأوجه التي تتلاقى فيها التجارب الإنسانية التي تتجاوز حدود الجغرافيا والأعراق والتاريخ، وقد وصفه الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه "جسر بين الحضارات".
وهو ما كان نتيجته خلق مجتمع قائم على التعددية والسلام، لافظا للفكر المتطرف والإرهاب، وقائما على التسامح وقبول الآخر، فقد أصبحت الإمارات بمثابة نموذج يحتذى به للتسامح والتعايش المشترك، ونجحت في احتضان واستيعاب مختلف الديانات والثقافات، وخلقت حالة استثنائية من الاندماج الداخلي القائم على "الأخوة الإنسانية" دون تمييز في المطلق، وهو ما جعلها نموذجا للدولة الراعية للقيم والداعمة للتطبيق الإنساني المعتدل للدين الإسلامي، وهو ما مكنها من صياغة صورة ذهنية تتصدى لما أحدثته جماعات الفكر المتطرف من تشويهات، وبالتالي فهي تعد دليلا واقعيا وملموسا على إمكانية خلق مجتمع مسلم متقدم يحترم حقوق الإنسان وقادر على التكيف والتأقلم مع التباينات والاختلافات.
aXA6IDE4LjE5MC4xNTIuMzgg
جزيرة ام اند امز