صراع الغاز بين أمريكا وروسيا.. تهديد إمدادات الطاقة لأوروبا
على الرغم من أن أمريكا حققت طفرة في صادراتها من الغاز الطبيعي المسال لأوروبا، فإنها لا تزال تعتبر روسيا من العقبات التي تعرقل تطلعاتها.
في أعقاب التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن سياسة "هيمنة الطاقة"، ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية المستمرة لتوجيه أوروبا بعيدا عن واردات الغاز من روسيا، وتوجيهها نحو زيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، وانتقاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السياسة الأوروبية لكونها تعتمد بشكل مفرط على الغاز الروسي، ظهرت سلسلة من الصراعات بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصة مع استئناف العمل بخط أنابيب نورد ستريم 2 الروسي الذي وصفه ترامب بأنه "خطوة جذرية إلى الوراء لأمن الطاقة الأوروبي ومصالح الولايات المتحدة".
ومما لا شك فيه أن هذا النزاع القائم بين الدولتين من شأنه أن يهدد استقرار إمدادات الطاقة الأوروبية، فمع استهداف الحكومة الأمريكية صادرات الغاز الروسية في المستقبل، فإن هذا سيؤثر بشكل خطير على إمدادات الطاقة لأوروبا من الغاز الطبيعي.
فقد قامت الولايات المتحدة بالضغط على روسيا من خلال فرض عقوبات عليها وعلى حلفائها بالأخص ألمانيا؛ لإيقاف خط أنابيب نورد ستريم 2، زاعمة أن هذا المشروع من شأنه أن يدفع الغاز الروسي إلى عمق أوروبا الغربية ويمكّن روسيا من فرض نفوذ أكبر على السياسة الخارجية الأوروبية، ما يمكنها من استخدام الطاقة كأداة للضغط على أي دولة، وعليه تعمل الولايات المتحدة جاهدة على دفع دول الاتحاد الأوروبي لشراء الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة بدلاً من روسيا باعتباره وسيلة لتنويع وتأمين إمدادات الطاقة، وخلق مناخ تنافسي، كما أنه من شأنه أن يسهم في خفض العجز التجاري الأمريكي.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة حققت طفرة في صادراتها من الغاز الطبيعي المسال لأوروبا، فإنها لا تزال تعتبر روسيا من العقبات التي تعرقل تطلعاتها لإمدادات الغاز في منطقة الاتحاد الأوروبي، وقد انتقدت روسيا جهود الولايات المتحدة في إفشال مشروع مد خط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا بشكل واضح خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في مدينة سان بطرسبرج الروسية، كما أعلنت روسيا تضامنها مع الصين التي تخوض حربا تجارية مع واشنطن.
دوافع الصراع: الهيمنة على إمدادات الغاز
تزايدت المنافسة والصراع بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن إمدادات الغاز الطبيعي، فبالنظر إلى الاتحاد الأوروبي كقوة عظمى مكونة من 28 دولة بإجمالي عدد سكان يبلغ نحو 512 مليون نسمة، يعد الاتحاد الأوروبي سوقا محل نظر لأكبر مصدري الطاقة في العالم، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي.
وطالما كانت روسيا المصدر والمورد المهيمن للغاز الطبيعي إلى السوق الأوروبية، لكن الولايات المتحدة تتطلع إلى تحدي روسيا من خلال زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي (LNG) باعتباره أسهل وأكثر أمانا في التخزين والنقل، ولكنه من ناحية أخرى يعد باهظ التكلفة بسبب الجهد المطلوب لتسييله ونقله مقارنة بالغاز المنقول في خطوط الأنابيب ومصادر الطاقة الأخرى.
الحقيقة هي أن الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، إذا تم تسعيره على أساس تنافسي، يمكنه أن يلعب دورا متزايدا في إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي، ما يعزز التنويع وأمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يفرض خطرا محتملا على روسيا.
بلغ حجم الغاز الطبيعي المسال الذي تم توريده من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي نحو 24% من إجمالي إنتاج الغاز المسال الأمريكي في أكتوبر/تشرين الأول 2018، ليسجل هذا الشهر أكبر حجم للتجارة الأوروبية-الأمريكية من الغاز المسال بإجمالي 0.6 مليار كم3، وذلك مقارنة بنحو 10% من صادرات الولايات المتحدة التي ذهبت للاتحاد الأوروبي في عام 2017.
وتتوقع المفوضية الأوروبية أن تتضاعف الصادرات الأمريكية من الغاز لأوروبا بحلول عام 2022، وذلك مع تنامي إنشاء خطوط الغاز المسال بأنحاء أوروبا.
وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة بدأت الظهور كمصدر للغاز في عام 2017 لأول مرة، وفقا لتصريحات إدارة معلومات الطاقة، فقد ارتفعت صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال بنحو 58% في النصف الأول من عام 2018 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2017. وخلال الأشهر الأولى من عام 2019، بلغت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الأمريكي نحو 13% لتصبح بذلك ثالث أكبر مورد للاتحاد الأوروبي.
ويرجع ذلك إلى زيادة الإنتاج من حقول الصخر الزيتي في الولايات المتحدة. وتعكس تلك الإحصاءات رغبة ترامب في توفير بديل للطاقة الروسية للحلفاء الروسيين بما تم وصفه بـ"غاز الحرية".
وعلى الرغم من الطفرة التصديرية للغاز التي حققتها الولايات المتحدة في فترة وجيزة، لا تزال روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2018، وفقا لبيانات المفوضية الأوروبية. كما يظهر مدى اعتمادية الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، عندما سجلت المفوضية أن 11 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي (بلغاريا وجمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا والمجر والنمسا وبولندا ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وفنلندا) قامت باستيراد أكثر من 75% من إجمالي الواردات الوطنية من الغاز الطبيعي من روسيا في عام 2018، نظرا لقربها من البلاد.
الجدوى الاقتصادية لخط نورد ستريم 2
يربط خط نورد ستريم 2 روسيا بأوروبا عبر بحر البلطيق، ويعد خط الأنابيب الموسع بديلا لتجاوز بلدان المرور مثل أوكرانيا. ويشارك في المشروع مجموعة "غازبروم" Gasprom العملاقة ومؤسسات أوروبية هي "ونترشال" و"يونيبر" الألمانيتان و"شل" البريطانية-الهولندية و"إينجي" الفرنسية و"أو أم في" النمساوية بالإشراف على خط الأنابيب الذي يمتد لمسافة 2000 كيلومتر والذي يعمل على توصيل الغاز من أحد مراكز الإنتاج في Torzhok عبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا. يمر خط الأنابيب تحت سطح البحر عبر المياه الإقليمية لروسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا. وتعد السلطات الدنماركية فقط هي التي لم تسمح بعد بخط الأنابيب في المياه الإقليمية.
تبلغ القدرة الإنتاجية السنوية لخط نورد ستريم 2 نحو 55 مليار متر بما يسهم في إمداد الغاز لنحو 26 مليون أسرة أوروبية، ويقدر الخبراء أن يتجاوز الطلب الأوروبي على الغاز الروسي 50%، في حالة بدء تشغيل نورد ستريم 2.
ولا يعني إنشاء خط الأنابيب نهاية العبور عبر أوكرانيا، حيث يبلغ حجم الغار العابر أوكرانيا نحو 93 مليار متر مكعب سنويا، في حين تبلغ قدرة خط نورد ستريم 2 المتوقعة 55 مليار متر مكعب سنويا، ما يؤكد استمرار عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا. علاوة على ذلك، من المحتمل أن تزداد احتياجات الاستيراد في الاتحاد الأوروبي بسبب عمليات التخلص التدريجي من الأسلحة النووية والفحم، وكذلك تقلص الإنتاج المحلي للاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، لا يمثل هذا الخط خطراً على أمن الإمداد الأوروبي، بل سيمنح أوروبا تدفقات أكبر من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى قدرتها للوصول إلى الغاز الطبيعي المسال بصورة مرنة بفضل البنية التحتية لإعادة التزويد، كما تسمح التدفقات العكسية بنقل الغاز الطبيعي المسال إلى وسط شرق أوروبا.
وتنقسم اتجاهات الدول الأوروبية إزاء خط نورد ستريم2 ففي حين تساند ألمانيا المشروع، تعارض كل من بولندا والدنمارك وأوكرانيا المشروع، بحجة أنه سيزيد من اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، مع تأكيدهم أن أوروبا يجب أن تركز على تنويع موارد الطاقة لديها، ويتماشى هذا الاتجاه مع الرأي الأمريكي.
وقد أسهم هذا المشروع بصورة كبيرة في توتر العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، نظرا لمحاولات الولايات المتحدة لإبرام صفقة تجارية أفضل مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي، إلا أن تهديدات ترامب المستمرة بفرض عقوبات على روسيا وعلى الشركات المنفذة للمشروع لن تجد أي جدوى، حيث سيتم بناء خط الأنابيب، فقد تم بالفعل استثمار 6 مليارات دولار من أصل 9.5 مليار دولار، ما يزيد من تصميم روسيا على إكمال المشروع، وبفرض العقوبات من المحتمل إبطاء المشروع وليس إلغاؤه.
مستقبل مزيج الطاقة في أوروبا
يتطلع العالم -خاصة أوروبا- إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي باعتباره أحد المصادر متزايدة الأهمية ومصدرا للطاقة النظيفة، فوفقا لوكالة الطاقة الدولية، يُعد الغاز الطبيعي "منخفض الكربون" مقارنة بأنواع الوقود الأحفوري الأخرى، إضافة إلى ذلك، يستغرق بناء محطات الغاز نحو عامين وهي فترة وجيزة.
وعليه، يتوقع الاقتصاديون أن يستمر الغاز الطبيعي كمكون أساسي لمزيج الطاقة بالنسبة لكتلة الاتحاد الأوروبي في الفترة المقبلة، خاصة بالنسبة لألمانيا. ويُعزى ذلك للانخفاض السريع في إنتاج الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي نفسه وتزايد الطلب الأوروبي على الغاز منذ عام 2017.
كما يتعلق الأمر بجهود الاتحاد الأوروبي للمحافظة على المناخ، حيث تسعى ألمانيا إلى إغلاق جميع المصانع التي تعتمد على الفحم بحلول عام 2038. كما تسعى أوروبا للتخلص من استخدامات الطاقة النووية في مزيج الطاقة المستقبلي. وعلى الرغم من بزوغ الطاقات المتجددة كمصدر للطاقات النظيفة فإنها لا يمكن اعتبارها منافسا للغاز الطبيعي.
ووفقا لأحدث تقرير World Energy Outlook، من المتوقع أن يستمر ارتفاع الطلب الأوروبي على الغاز حتى عام 2040، ومن ثم الطلب على استيراد الغاز. وبالتالي، فمن المفترض -من منظور السوق- أن الغاز الطبيعي الروسي سيكون بمثابة "الإمداد الأساسي" للاتحاد الأوروبي.
ومع هيمنة روسيا على إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي والاعتماد عليها بشكل كبير، تتزايد ضرورة تنويع مصادر الطاقة، والاعتماد بشكل أكبر على ممر العبور الأوكراني وتعزيز التبادل التجاري مع الولايات المتحدة للحصول على الغاز الطبيعي المسال، خاصة أن روسيا تتجه بشكل متزايد نحو الدول الآسيوية، ما سيؤدي إلى تغيير استعدادات وديناميكيات أسواق الغاز، ما يجعل التنويع حتمية بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
ومن ثم يجب بناء إجماع في الاتحاد الأوروبي على سبل التعامل مع الولايات المتحدة وروسيا، ليس فقط من أجل ضمان إمدادات الغاز على المدى الطويل ولكن أيضا لاستقلال أوروبا السياسي والاقتصادي. كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي وألمانيا مواصلة التركيز على تنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال.
aXA6IDMuMTQ5LjI5Ljk4IA== جزيرة ام اند امز