مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية التي شغلت العالم مؤخراً هي قوة عسكرية عدد عناصرها يتجاوز الخمسين ألف مقاتل، وتنتشر في مناطق صراع كثيرة حول العالم، منها سوريا وليبيا والصومال والسودان ودول أفريقية.
في حين تتمسك روسيا الدولة المركزية تاريخياً بأنها قوات مستقلة تمثل شركة خاصة ولا علاقة لها بالمؤسسات الروسية العسكرية.
حتى فجر يوم السبت الـ24 من يونيو/حزيران الماضي، كانت روسيا تحتفظ بكامل هيبتها وسيادتها الداخلية، رغم تداعيات حربها في أوكرانيا من عقوبات اقتصادية وعزلة دولية، حتى جاء التمرّد المفاجئ والصاخب الذي قاده يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر، والذي أعلن سيطرته على مدينة روستوف الروسية، ثم بدأت قواته بالزحف نحو العاصمة موسكو.
بلغت الأحداث ذروتها، حينما وصف الرئيس بوتين صديقه، الذي طالما كان مقرّباً منه، بـ"الخائن"، الذي وجّه إليه طعنة في الظهر، لكن سرعان ما انتهت تلك المواجهة فجأة بعد أن تدخل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، حليف بوتين القديم، للمساعدة في التوسط لإبرام اتفاق بين الجانبين وافق بموجبه بريغوجين على الخروج إلى بيلاروسيا وانسحاب قواته.
لاحقاً، التقى بوتين وبريغوجين في اجتماع داخل الكرملين حضره 35 شخصاً، بما في ذلك كبار قادة فاغنر، واقترح بوتين إمكانية انضمام "المجموعة المسلحة" للجيش الروسي، وضرورة وجود إطار قانوني ينظم عملها، لكن وفقاً لصحيفة "كوميرسانت" الروسية رفض بريغوجين هذا العرض.
لذلك، سيظل مصير "فاغنر" وبريغوجين غير واضح خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وربما مسار روسيا على المدى الطويل نتيجة الفوضى التي أطلقتها تلك الأحداث.
لا شك أن تمرد قائد "فاغنر" المفاجئ ووصول قواته إلى منطقة لا تبعد عن موسكو أكثر من ساعتين كان حدثاً استثنائياً في روسيا.
وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذا الحدث، فهو خطورة وجود أي كيان موازٍ للدولة وجيشها النظامي، وضرورة احتكار السلاح والقوة في أي دولة، صغيرة كانت أو كبيرة، بيد جيش هذه الدولة فقط.
ورغم كثرة الادعاءات حول هذه الأزمة، إلا أن المؤكد هو وجود فجوة كبيرة في قبضة بوتين على الوضع داخل روسيا التي كانت تحظى باستقرار كبير منذ انتهاء المرحلة الانتقالية ما بعد "الاتحاد السوفيتي" وتسلّم بوتين مقاليد الكرملين بعد تنحي الرئيس بوريس يلتسين، إذْ لم يكن في روسيا إلا شخص الرئيس بوتين الذي حرص على ألّا يكون هناك حتى رجل ثانٍ، بعدما أزاح كافة خصومه ومنافسيه الأقوياء، إلى أن جاء طبّاخه السابق ليشكّل أخطر تحدٍّ يواجهه خلال أكثر من عقدين من الزمن.
أخيراً، قد لا تثبت هذه الأزمة بالضرورة أن قبضة بوتين على السلطة قد ضعفت، لكنها تثبت أن قوة الدولة الروسية التي يسيطر عليها قد ضعفت. وبينما تسعى روسيا إلى التعافي من تبعات هذه الأزمة، وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية، فإن خصومها في الغرب سيستغلّون هذه الأزمة لإرباك روسيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وجرّ الكرملين إلى مزيد من الاستنزاف في حربها مع أوكرانيا التي كان تمرد طبّاخ الرئيس بريغوجين أحد انعكاساتها على الداخل الروسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة