وحيد حامد.. التحليق بسلاح القلم ضد "طيور الظلام"
ظل وحيد حامد مخلصا لرومانسيته الاجتماعية، مثلما ظل مقاتلا مخلصا لمواجهة الفساد والتطرف ولذلك استحق عن جدارة لقب "الرومانسي المقاتل".
المتأمل في كتابات وحيد حامد المبكرة وبعدها بقليل، يدرك ببساطة كمية الشجن والعاطفية الشديدة التي تجتاح سطوراً معطرة برائحة الحنين الطاغي والرقة المتناهية، كما في إحدى قصصه القصيرة التي تحولت فيما بعد إلى مسلسل إذاعي ثم سهرة تلفزيونية بعنوان (أنا وأنت وساعات السفر).
ترصد القصة لقاء اثنين من العشاق افترقا لسنوات طويلة وتزوج كل منهما قبل أن يلتقيا في رحلة قطار فيتصاعد بينهما العتاب وتكون فرصة لاسترجاع شجون رائعة قبل الفراق مرة أخرى في نهاية الرحلة.
هذا الحنين وتلك اللقاءات المجهَضة التي تكشف عن الفرص الضائعة في حياة المحبين سوف تظل هاجساً موجوداً في روايات أو لنقل سيناريوهات وحيد حامد بعد ذلك؛ بما فيها الأعمال التي تحول فيها إلى مقاتل يطلق رصاص حواراته القوية المتميزة ضد التطرف والإرهاب الأسود دون أن يفقد رهافة علاقاته التي تشبه خيوط "الدانتيلا" وتأثيرها على مصائر أبطاله في أكثر من 40 فيلماً انحاز خلالها للبسطاء وهمومهم ودافع عن حقهم في الحياة الكريمة.
في فيلمه "طائر الليل الحزين"، مثلاً، نرى واحدة من قصص الحب المجهضة وسط ظروف شديدة التعقيد، يكتنفها الجانب السياسي ووجود "كبار" في دهاليز الحكاية، مثل معظم حكايات وحيد حامد.
يدور العمل عن "عادل" المسجون المحكوم عليه بالإعدام في جريمة لم يرتكبها، إذ كان وقت ارتكاب الجريمة بصحبة امرأة لا يعرفها، فيهرب من السجن، وبمساعدة القاضي "حازم" المقتنع ببراءة عادل وشقيقته، يجد المرأة لكنهما يكتشفا أنها زوجة رجل أعمال شهير جداً مما يمنعها من الشهادة.
"الإنسان يعيش مرة واحدة"، فيلم تتجلى فيه قصص الحب من بين سطور معاناة واغتراب ونميمة مجتمع مغلق، من خلال معلم المدرسة "هاني" المنكل به بالنقل للسلوم بسبب استهتاره، وحكاية "بكري" الهارب من الثأر والذي يموت كل يوم بسبب الخوف حتي يولد من جديد علي يد "هاني" الذي يقنعه بأن الإنسان يعيش مرة واحدة وأن عليه مواجهة مصيره بشجاعة.
إنه الجانب الفلسفي أيضاً الذي دفع وحيد حامد ليقدم فيما بعد سلسلة أفلامه التي يواجه بها "طيور الظلام" رافعاً قلبه فوق يديه دون أن يهاب المواجهة، في حين يخلط هذه المواجهة ضد الفساد والتطرف في أعمال أخرى تؤكد ذلك العرض المتوازي بأن الأعداء الحقيقيين لهذا الوطن هما الفساد والإرهاب كما في (طيور الظلام) الذي لخص فيه هذا المعنى بشكل مباشر في مشهده الأخير من خلال من يصوبان الكرة لتحطيم زجاج الوطن، في مباراة مشتركة بين المتطرفين ويمثلهم "فتحي" والفاسدين ويمثلهم "علي".
تتكرر المواجهة في أفلام من نوعية (اللعب مع الكبار- المنسي- الإرهاب والكباب- كشف المستور- الراقصة والسياسي-دم الغزال) حيث يضع حامد يده بمشرط جراح ماهر على موطن الداء حين يحدث التزاوج بين الفساد والفن، أو حين يصبح القهر والجوع والفهم السطحي للدين مدخلاً ساخراً لعملية كبيرة في "مجمع التحرير" بقلب العاصمة المصرية القاهرة، تنتهي كعادة الكاتب في الكثير من أعماله بطريقة رومانسية، حيث تخرج الجموع في حراسة الشرطة دون معرفة المتسبب في كل ذلك.
"المنسي" و"البريء"
يكشف الفيلم عن نموذج المهمشين في مجتمعنا في مواجهة قوة جبارة عاتية لعالم رجال الأعمال، ليتحول جانب كبير من أبطال وبطلات كاتبنا لما يشبه (دون كيشوت) الذي يحارب طواحين الهواء، أو نماذج أخرى لأسطورة "سيزيف" الإغريقية الذي ما إن يظن أنه صعد للقمة وانتهت أعباؤه حتى يكتشف أنه لا مفر من السقوط فيظل يعاود ويعاود دون كلل لمواجهة قدره المحتوم، وكل هذه نماذج للمواطن المصري الذي ظل وحيد حامد مهموماً به في معظم أعماله التي ربما تصل لذروتها في تحفته مع عاطف الطيب وفيلم "البريء".
هذا الفيلم تحديداً والذي مُنع من لفترة قبل السماح به بعد تغيير النهاية، يجسد السيناريو والحوار التلغرافي الذي اشتهر به الكاتب، وبمنتهي البراعة تلك العلاقة السياسية المعقدة بين المواطن البسيط والقهر، وبين البراءة والجريمة الكاملة التي يرتكبها من يفترض بهم حماية الناس من البطش، وهو فيلم ينتصر لفكرة ضرورة مواجهة الظلم حتى لو كان بطريقة دراماتيكية عنيفة وهي النهاية التي فجرت بدورها الكثير من الجدل.
الغول والثورة على الظلم
يتكرر الأمر في فيلم "الغول" الذي "ثار بدوره ضجة ومنع لفترة بعد أن شكلت له لجنة رقابية خاصة، وقالت إن الفيلم يعد مظاهرة سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد ومعاداة لنظام الحكم ومؤسساته القضائية، ويشجع بل يدعو إلى الثورة الدموية ضد أصحاب رؤوس الأموال.
وتدور أحداث الفيلم حول قضية قتل متعمد لأحد الموسيقيين وإصابة راقصة بحادث سيارة، والفاعل هو ابن أحد كبار الانفتاحيين الذي يحاول بأساليبه الملتوية أن يسقط التهمة عن ابنه لكي تحفظ القضية ضد مجهول، ولكن الصحفي الذي صادف أن يكون شاهداً للحادث يصر على أن تأخذ القضية مجراها الطبيعي أمام القضاء، لذلك يقرر الوقوف ضد محاولات الانفتاحي الكبير والتصدي له، لكنه لا يستطيع الصمود أمام هذا الغول وتياره الجارف، فيصاب باليأس والإحباط ويقرر تنفيذ حكم الإعدام في هذا الغول نيابة عن المجتمع.
الحقيقة، أن الفيلم كان إسقاطاً موجهاً ضد مساوئ الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي لكن نهايته المثيرة للجدل لم تختلف كثيراً عن نهاية فيلم "البريء" الذي ينتهي بتصويب الرصاص، فالتصرف الفردي باستخدام السلاح ليس هو الحل، ولا تكون مواجهة الفساد والقهر بالدعوة للعنف وهو ما أخذه عليه النقاد واعتبروا أن الحلول التي يدعو لها وحيد حامد خرجت من الرومانسية الثورية في افلامه إلى المواجهة الدموية، وهو ما لا يجوز في مبدع ينتقد عنف الإرهابيين.
بعيداً عن العديد من الأعمال الأخرى كمسلسلات وحيد ضد جماعة الإخوان في أجزائه أو حتى مناقشة الإرهاب في مسلسلي (العائلة، أوان الورد)، فإن مبدعنا ظل مخلصاً لرومانسيته الاجتماعية حتى في أعتى مواقف مواجهته للفساد كما في (ملف في الآداب- آخر الرجال المحترمين- ديل السمكة- كل هذا الحب-أضحك الصورة تطلع حلوة- الأولة في الغرام) مثلما ظل مقاتلاً مخلصاً لمواجهة الفساد والتطرف في معظم أعماله، ولذلك استحق عن جدارة لقب "الرومانسي المقاتل" الذي جمعته الظروف بمخرجين ونجوم نجحوا في توصيل رسالته كعاطف الطيب وشريف عرفة وسمير سيف، وعادل إمام ومحمود عبدالعزيز ويسرا ونور الشريف وغيرهم، بينما يظل حواره التلغرافي الجانح للفلسفة والرومانسية أحياناً وللمباشرة أحياناً أخرى واحداً من أهم ما يميز هذا الكاتب الذي بدا حياته عاشقا للسرد عبر القصة القصيرة قبل أن يصبح واحداً من أبرز فرسان الرواية السينمائية.