مسجد باصونة بسوهاج.. بصمة تراثية لمعماري مصري مجدد
المعماري المصري وليد عرفة، مصمم مسجد "باصونة" يروي لـ"العين الإخبارية" رحلة نجاحه
بينما يعكف المعماري المصري وليد عرفة على تسخير علمه ومهنته لإحياء العمارة المصرية، لا تزال أصداء تنفيذه لمسجد باصونة بإحدى قرى محافظة سوهاج تتردد في بلاده.
ويرجع بناء مسجد باصونة إلى عام ٢٠١٩، حيث لفت الأنظار كصرح فريد عالمي صمم ليكون تحفة معمارية تجمع بين تراث الماضي وأصالته وحداثة الحاضر في قرية صغيرة تقع أقصى صعيد مصر (جنوب)، على مساحة لا تتجاوز ٤٥٠ متر مربع ويتسع لأكثر من ٥٠٠ مصلي.
وفي سابقة لمسجد مصري، نجح باصونة في الترشح ضمن القائمة القصيرة لجائزة عبداللطيف الفوزان يناير/كانون الثاني 2019.
ويعلق وليد عرفة، صاحب دار عرفة للتصميم والعمارة، على إعادة الاحتفاء بمسجد باصونة الذي صممه داخل قريته، بقوله لـ"العين الإخبارية": "بالتأكيد إعادة الاحتفاء بتصميم المسجد أمر يسعدني، ولعله محفزا إضافيا لي فيما أنفذه حاليا، خاصة أن الصور المتداولة حاليا لمسجد باصونة صورا جديدة، لا أعرف مصدرها لكنها تعكس اهتماما بعمل تم تنفيذه منذ ما يقارب عامين".
وتداول رواد التواصل الاجتماعي فيسبوك صور مسجد باصونة، مصحوبة بقصة تصميمه التي كانت مثارا للاحتفاء والإعجاب، ووصفوه بأنه إنجاز معماري فريد ورائع.
مسجد منتظر
"لا يرى عرفة منطقا سليما لتكرار مبنى معماري بحاذفيره، فكل مبنى يصاحبه تضافر عدد من العوامل يصعب تكرارها من موقع لآخر ومن زمن لآخر"، بحسب حديثه لـ"العين الإخبارية"، وهو ما يفسر كيف نجح المهندس الشاب في أن يتحول تصميمه لأي بناء إلى قطعة فنية قائمة بذاتها، ما يجعل جديده دائما محل اهتمام وانتظار من قبل المختصين.
يقول عرفة: "أعمل حاليا على تصميم مسجد آخر بضاحية السادس من أكتوبر، سيتم تنفيذه على مساحة ١١٠٠ متر مربع وهي 6 أضعاف مساحة بناء باصونة".
ورغم أنه مازال من المبكر الحديث عن تفاصيل المسجد الجديد، غير أن عرفة كشف لـ"العين الإخبارية" أحد أهم ملامح تحفته المعمارية المنتظرة وهو تغيير ثقافة البناء في مصر، حيث يستهدف المهندس الشاب "تقليص الكلفة المباشرة وكلفة التشغيل إضافة للارتقاء بالجودة في آن واحد".
يضيف: "طريقة إنشاء هذا المسجد مختلفة إذ نسعى إلى دعم كيانات هندسية جديدة تعمل بأساليب قديمة، تستطيع توفير كلفة اقتصادية رائعة يمكن محاكاتها لاحقا في مشروعات ذات كلفة ضخمة مثل إسكان الشباب".
ولم يوضح عرفة تكلفة المشروع الجديد لكنه توقع أن يغير أسلوبه المعادلة الاقتصادية وتخفيض الكلفة من ٢٠ إلى ٣٠ ٪.
سر النجاح
ويحمل عرفة، المهندس المعماري الذي تخرج في كلية الهندسة جامعة عين شمس عام 2001 منهجية تفكير ميزته عن غيره، فهو يحمل على عاتقه مع بداية كل تصميم جديد إعادة الهوية المصرية للعمارة في هذا العصر.
يقول عرفة: "منذ أن تلمست الفارق بين العمارة والإنشاء، بين المعنى المخدوم والتقنية الخادمة، بين الوعي والسعي، تساءلت كطالب عمارة مصري ينتمي لحضارة الإسلام: ما المعنى الذي يجب علي أنا تحديدا خدمته، ما العمارة التي ينتظرها العالم مني وزملائي بالذات، ما هي العمارة المصرية وما علاقتها بالمذاهب والمدارس العالمية الأخرى؟".
يضيف المهندس الشاب: "تساءلت أيضا عن علاقة العمارة المصرية اليوم بما سبقها من تجليات تاريخية سواء المصرية القديمة أو القبطية أو الإسلامية بمراحلها المختلفة وتأثرها بروافد إغريقية ورومانية، وكل هذا يضاف لهم الانتماء العربي والإفريقي والمتوسطي، وهل هناك خيط ينظم ذلك جميعا ويصل الماضي بالحاضر بالمستقبل؟ منذ تلك اللحظة وإلى الآن أسعى في محاولات مستمرة لتبين الإجابات".
ويرى عرفة أن "من الواجب علينا الاستفادة من الدروس والمناهج المستقاة من المباني التاريخية لإنتاج عمارة جديدة خاصة بالتراث تلبي احتياجات الماضي والمستقبل".
بيت مصر.. مزيج بين الهوية والحداثة
ويحاول عرفة أن يجيب عن سؤال الهوية بشكل عملي في كل تصميماته، ويبدو أن من يتلمس الطريق سرعان ما يحدد وجهته، وهو ما حدث عندما أعلن عن مسابقة دولية لتأسيس "بيت مصر" بالمدينة الطلابية الدولية بباريس، أوائل العام الماضي.
يروي عرفة: "تقدم للمسابقة ٥٧ تحالف مصري فرنسي، اختاروا ٥ كنت واحدا منهم، بقيت ٤٥ يوما في باريس أعمل مع زملائي على التصميم، وكلل عملنا بالفوز بالمسابقة".
يضيف: "التحدي الأكبر الذي واجهنا هو رغبتنا في الوصول إلى تصميم يعبر عن الهوية المصرية ولكن داخل باريس.. لك أن تتخيل أنت وسط أجواء باريسية الطرق والقوانين والمزاج العام، ونحن نريد بيت مصري. كانت موازنة صعبة واستغرقت منا مجهودا كبيرا".
يضيف المهندس الأربعيني: "استخدمنا مجموعة من العناصر للتأكيد على فكرة الهوية المصرية ووضعناها داخل السياق الأوروبي، وكان من بينها مواد البناء والتشطيب مع استخدام نصوص مصرية قديمة كانت تدرس للطلبة المصريين القدماء متعلقة بآداب طلب العلم والتي تم نقشها بالحروف الهيروغليفية على الواجهة الشرقية مع إتاحة ترجمات لها بلغات مختلفة من خلال تقنية "الكيو آر".
الإضاء كان التحدي الثاني الذي واجه عرفة وزملائه، وبالتالي كان السؤال: كيف نصمم بيت مصر بطريقة تسمح بدخول أكبر كمية من الإضاءة الطبيعية، فيقول: "نجحنا في إيجاد حل له من خلال خلق فراغ صحن داخلي".
ومع الشروع في تصميم "بيت مصر"، كانت التحديات تتوالى، فكان هناك اشتراط من قبل المدينة الطلابية الدولية أن يكون هناك حديقة حول المبنى تعبر عن ثقافة البلد الذي يمثله البيت.
يقول عرفة: "أن نفكر في زراعة اللوتس والبردي في باريس مسألة صعبة، لكنه كان خيارنا ونجحنا في إيجاد حل له، لاننا رأينا أنهما أكثر عنصرين يعكسان الهوية المصرية".
تبلغ مساحة الأرض التي خصصت لبيت مصر ١٩٠٠ متر مربع، متاح منها لتنفيذ البيت ٩٠٠ متر مربع، بارتفاع ٨ أدوار، تضم أكثر من ٢٠٠ غرفة، وقاعة متعددة الأغراض، مع عدة قاعات أخرى مخصصة للرياضة والمذاكرة والموسيقى وغيرها.
مفارقة طريفة يتذكرها المهندس عرفة بالحديث عن قاعات المذاكرة: "(البيت السويسري) موجود داخل هذا الحرم الجامعي، وكنت أدرسه باهتمام شديد عندما كنت طالبا بالجامعة كأحد اوائل المباني التي غيرت شكل العمارة في العالم".
يضيف: "لا أحد يتصور كم كانت سعادتي وأنا أصمم (بيت مصر) المقابل لبيت الطلبة السويسريين الذي صممه (لو كوربوزييه) أحد الأباء المؤسسين لعمارة الحداثة في القرن الـ20".
لدي حلم
ورغم النجاح الذي حققه عرفة في مجال العمارة، إلا أن واحدا من أكبر أحلامه على الإطلاق لم يحقق بعد، وهو تأسيس مدرسة لتخريج المعماريين والعمال المهرة.
ويقول عرفة: "الأمر أشبه بإحياء الإسناد المتصل في العمارة المصرية، والذي انقطع بتجريف الثقافة المصرية نتيجة الاحتلال المتتالي، ثم موجات التغريب التي جاءت بعد ذلك".
يضيف: "يبقى التعليم واحدا من أحلامي، حلمي تأسيس مدرسة تعنى بتدريس العمارة بالمعنى الواسع للكلمة ويشمل ذلك العلوم الهندسة والعمارة والعلوم الإنسانية؛ كالفلسفة والعلوم الشرعية، إضافة إلى كل العلوم الخادمة للتقنيات الحديثة".
ويختم المصمم وليد عرفة حديثه: "في رأيي هذا ليس غريبا. لأن العمارة هي معنى قبل أن تكون مبنى، وأعتقد هذا هو سر عظمة العمارة المصرية".