نُقلت عن تيب أونيل رئيس الكونغرس الأميركي السابق مقولة: «كل السياسة محلية»
نُقلت عن تيب أونيل رئيس الكونغرس الأميركي السابق مقولة: «كل السياسة محلية»، بمعنى أن توجهات أميركا وسياستها الخارجية تنبع من أسباب داخلية بالأصل، ومَن أراد أن يُغير هذه التوجهات لتعمل لصالحه فلا بد قبلها من إعادة «ترتيب» عناصر المعادلة داخل أميركا شعبياً ومؤسسياً، فأميركا أشبه بالدبابة، لكن عجلة القيادة بالداخل.
هذه الجزئية عرفناها سابقاً بصورة جيدة وقمنا باستغلالها كوننا عرباً في عدد من قصص النجاح التي من المهم أن نذكرها حتى لا نشعر باليأس تجاه تغلغل اللوبي الإيراني وحضور اللوبي الإسرائيلي في أروقة البيت الأبيض والكونغرس والقطاعات الشعبية بالولايات المتحدة، وأن بالإمكان تكرار تلك النجاحات إنْ قمنا باللعب بطريقة سليمة ولم نرتكب الأخطاء الكارثية، التي تَلَتْ نجاحات الأمس وقلبت الطاولة ضد العرب بشكل أكثر كارثية!
نجح اللوبي السعودي سابقاً بقيادة الأمير بندر بن سلطان في منع وعرقلة أكثر من قرار أميركي مدعوم من اللوبي الإسرائيلي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، لما يتبع ذلك من الاعتراف بيهودية القدس، ولكن النجاح الأكبر في عز عنفوان لوبي IPAC الإسرائيلي كانت صفقة شراء طائرات الأواكس، التي عارضها الصهاينة بشكل مجنون لما يمكن أن تشكله هذه الصفقة من خلق موازنة للتفوق النوعي الحربي بين السعودية وإسرائيل، فكيف نجحت تلك الصفقة إذاً؟
هي خمسة عوامل أجاد السعوديون والعرب التعامل معها وهي محور النجاحات دوماً والتي تناسيناها أو ضعف التركيز عليها كـ(مجموعة) لا تنفصل، أولها اتجاه الأمير بندر للشركات الـمُصنعة ومجالس إداراتها ونقاباتها العمالية ذات التأثير القوي من أجل خلق قاعدة شعبية فعالة، والثاني نجاح الدبلوماسية السعودية في إقناع الرئيس رونالد ريغان من خلال شبكاتها في الوسط السياسي القريب من البيت الأبيض بأن الصفقة ستخدم الاستراتيجية الأميركية تجاه التمدد السوفييتي نحو المياه الدافئة، والعامل الثالث كان حُسْن التوقيت للضغط من أجل الصفقة والتي تمت بُعيد اجتياح الجيش الصهيوني لجنوب لبنان وانتشار صور المذابح والدمار، التي ارتكبها هناك وارتفاع السخط الشعبي الأميركي ضد إسرائيل في مقابل دعوات السعودية للسلام وإيقاف الحرب، ورابعها كان وحدة الجهد والهدف، حيث قام العرب ممثلين بالإمارات والعراق وليبيا بحشد 25 مستشاراً للضغط من أجل تمرير هذه الصفقة وتفكيك الخطاب الصهيوني المعارض.
العامل الخامس المهم كان النجاح الإعلامي وفعالية الحرب «الناعمة» المصاحبة لدور اللوبي السعودي، فلم يظهر أي مسؤول رسمي سعودي أو عربي كبير «علناً» لتمرير الصفقة، بينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن يظهر على وسائل الإعلام مُندداً بها ومهاجماً الإدارة الأميركية وتُطلِق الحرب الإعلامية شرارتها التي نَمَت بشكلٍ هائل لتهز وجدان الشعب الأميركي بخروج شعار يقول Reagan Or Begin?، فإما أن تقف مع رئيس بلادك وإما تقف مع رئيس إسرائيل!
هنا تجدر الإشارة إلى أننا نجحنا باستغلال الحضور العربي هناك، فالسيناتور جيمس أبو رزق ضغط من أجل تمرير أول دفعة من المقاتلات عام 1978، كما أسهمت «الرابطة الوطنية للعرب الأميركان» في دعم الصفقة من خلال إدلائها بشهادات عدة في الكونغرس لتمرير الصفقة، هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه المنظمة دعمت الصفقة، من خلال التنسيق مع مراكز صنع القرار وبالتواصل مع متنفذين في الشركات لإقناعهم بجدواها مالياً وهو ما يهم هذه الشركات، لكنها لم تقم بخلق حشد شعبي من المقيمين العرب، لأن العرب ببساطة لا يعتبرونها قضية تهمهم!
مُرِرَت الصفقة وانتصر اللوبي السعودي والعرب وحدث الخطأ الكارثي، فقد توقف الزخم الدبلوماسي والإعلامي ولم يستمر لخلق قاعدة شعبية وتدعيم الحضور العربي الإيجابي في الوعي المجتمعي الأميركي لخدمة استراتيجية بعيدة المدى، للأسف لم تكن هناك استراتيجية فقد فَرِحنا بالانتصار في معركة وغَفَلنا أنها معركة واحدة في حرب طويلة، فالخصم الذي خسرها وهو اللوبي الصهيوني وقف من جديد وعمل على الانتقام من كل أعضاء الكونغرس والسياسيين الذين وقفوا مع السعودية وقام بحملات تشويه سمعة هائلة وإيجاد ضغوطات كبيرة أنهت مستقبلهم السياسي في مقابل غياب تام للدعم العربي لهم، فكانت الرسالة واضحة وما زالت تتردد حتى اليوم: «من يقف مع العرب من جديد سينتهي كهؤلاء»!
لهذا السبب لَزِمَ وزير الخزانة الأميركية جون وليام سنو الصمت عندما وقف اللوبي الصهيوني ومعهم حليفهم الشرس تشاك شومر عراب قانون جاستا الذي قام بمسرحية «هوليوودية» بدعوة وسائل الإعلام لخُطبة نارية له في ميناء نيويورك لمهاجمة صفقة موانئ دبي عام 2005 واتهمنا بأننا ندعم الإرهاب وبأننا سنوظف عناصر القاعدة لإدارة الموانئ الأميركية، ورغم تعامل وليام سنو مع الشركة ومعرفته التامة بنزاهتها قبل كفاءتها إلا أنه لم يجرؤ على المواجهة، من يقف مع العرب سينتهي كأولئك! ذلك التوقف الذي حدث إثر صفقة الأواكس جعل المجال مفتوحاً للصهاينة لتشكيل صورة نمطية عن العرب وساستهم، فخرج ميتشيل بارد في كتابه The Arab Lobby ليقول في حديثه عن اللوبي العربي: «يمثل لوبي العرب بيروقراطيون لا يسوقون سوى نظرتهم الخاصة ولا يأبهون إلا لمصالح بلدانهم الشخصية فقط لا مصلحة الولايات المتحدة».
ويضيف: «هم يملكون ثروات غير محدودة تمكنهم من محاولة شراء كل ما لا يملكون القدرة على محاججته» ثم يتمادى أكثر وهو يُصرح في كتابه الذي وجد قبولاً كبيراً هناك واحتفى به الساسة في ظل غياب الحضور العربي الإعلامي والذي ما زال يكتب بنفسه لنفسه، حيث يقول بارد: «قوة اللوبي العربي لا تمثل رغبة المجتمع، ولكن تشير لفساد النخبة»، هنا هو يشير صراحة إلى أن العرب لا يملكون مشروعاً مقنعاً، ولكنهم ببساطة يشترون ذمم الساسة!
«كلُ السياسة محلية» ونحن لا نحتاج لتغيير اللعبة، ولكن نحتاج لتغيير طرق اللعب بها، وما دمنا نجحنا بالأمس القريب فبالإمكان تكرار النجاح، ولكننا نحتاج للكثير من الجهد «الموحَد» لتهيئة المسرح، فما لم تتغير الصورة النمطية فلن يتغير شيء!
نقلا عن / البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة