لماذا أتوجه بكلامى إلى من يقرأون - ويكتبون فى - وسائل الإعلام المقروءة، وغالبيتهم من الطبقة المتوسطة ؟ لاعتقادى - من ناحية - بأن فئات هذه الطبقة تتمتع بأهمية كبيرة فى الخريطة الاجتماعية لمصر، وكان لها دائماً دور بارز فى مسار تطور الحركة الوطنية، والتحولات
لماذا أتوجه بكلامى إلى من يقرأون - ويكتبون فى - وسائل الإعلام المقروءة، وغالبيتهم من الطبقة المتوسطة ؟ لاعتقادى - من ناحية - بأن فئات هذه الطبقة تتمتع بأهمية كبيرة فى الخريطة الاجتماعية لمصر، وكان لها دائماً دور بارز فى مسار تطور الحركة الوطنية، والتحولات الاقتصادية والسياسية على مدى المئات من السنين. ومن ناحية أخرى فقد ساد فى السنوات الأخيرة قدر غير قليل من الخلط والالتباس حول أوضاع فئات الطبقة المتوسطة وموقعها على سلم البناء المجتمعى المصرى، وعلاقاتها مع القوى الاجتماعية الأخرى.
وربما تتضح وجاهة الاعتبارين السابقين حينما نتفق على أن مفهوم هذه الطبقة هو من الاتساع والتنوع بما يميزها عن غيرها من الفئات الاجتماعية الأخرى مثل الفلاحين والعمال. فى مصر تشمل فئات الطبقة المتوسطة غالبية موظفى الدولة ( الجهاز الإدارى والهيئات الاقتصادية والشركات العامة) وكل المهنيين من الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين، وكبار الحرفيين والتجار .... إلخ. كانت هذه الفئات على اتساعها وتنوعها فى قلب حركة وتطور المجتمع المصرى، سواء قبل 1952 (الأفندية) أو بعد ثورة 52 (خاصة بعد 1957 ) وبدء توسع القطاع العام (الدولة وجهازها البيروقراطى والاقتصادى). مع بداية التحول إلى اقتصاد السوق والانفتاح كانت أعداد كبيرة من فئات الطبقة المتوسطة على رأس قائمة المستفيدين من هذه التغيرات، من خلال الالتحاق بوظائف مميزة فى البنوك والشركات الخاصة ( ثم العامة بعد تطويرها)، وعمليات التصدير والاستيراد، وزيادة رواتب ومزايا العاملين فى الحكومة، أو الهجرة إلى بلاد النفط. وتواصلت هذه التطورات حتى سنوات العقد الأول من الألفية الجديدة، التى شهدت تغيرات جوهرية فى أدوار القوى الاجتماعية وعلاقاتها المؤسسية والسياسية.
حينما عاد الاقتصاد المصرى - فى 2004 - إلى النمو بوتيرة سريعة بقيادة القطاع الخاص وتدفق الاستثمار الأجنبى تغيرت قواعد اللعبة الاقتصادية واقتسام عوائد النشاط الاقتصادى المتنامى. لقد ظلت عناصر الطبقة المتوسطة ( وخاصة البيروقراطية ) تراهن على أهمية دورها فى تسيير عجلة النشاط للحصول على مواقع مؤثرة ومزايا فى الأجور والمكافآت.
ولكن هذه الأهمية والدور بدأ فى التقلص مع دعاوى التحرير الاقتصادى وتشجيع الاستثمار وتسهيل إنشاء المشروعات ومنح التراخيص.ومع تسارع عجلة النمو الاقتصادى فى الفترة 4- 2008 أخذت تتزايد تعبئة وحشد الرأى العام فى اتجاهين: الأول ناحية اتهام الحكومة بالوقوع تحت سطوة البيزنيس وشاع وصفها بحكومة رجال الأعمال. الثانى ناحية الادعاء بعدم استفادة غالبية المصريين من عوائد النمو، بعد أن أكدت كل المؤشرات فى التقارير الوطنية والدولية الارتفاع المتصاعد فى معدلات النمو الاقتصادى.
بحكم التخصص كاقتصادى ووفقاً لمسئوليتى الوزارية لم أدَعْ الفرضية الثانية تمر بغير مراجعة ولا يكفى التعويل على مشاهد مجتزأة وأقاويل مُرْسَلة. تم تكليف فريق عمل من الخبراء فى الجامعات والوزارة وجهاز الإحصاء والبنك الدولى لقياس تأثير ارتفاع معدلات النمو على الفئات الاجتماعية المختلفة.
جاءت البيانات المُدَققة لتنفى خطأ التصور القاصر بأن عوائد النمو استحوز عليها الأغنياء وحدهم. الواقع الاقتصادى فى مصر يثبت أن النمو حتمى وضرورى لزيادة الدخل وتحسين مستوى المعيشة للغالبية مادام أنه يتحقق فى قطاعات تشغيل نشطة مثل الزراعة والصناعة والتشييد والسياحة وغيرها. الحقائق أشارت إلى أن نسبة غير قليلة من الفقراء ( 8% من السكان ) خرجت من دائرة الفقر. والأهم أن الطبقة المتوسطة حصلت على حصة أكبر من الدخل القومى فى تلك الفترة. لقد زادت نسبة الأسر التى كان يتراوح إنفاقها السنوى بين 8 و20 ألف جنيه (الطبقة المتوسطة) من 55% من إجمالى عدد الأسر فى سنة 2005 إلى 62% فى 2009. يواجه الاقتصاد والمجتمع خلال السنوات الخمس الأخيرة أوضاعاً بالغة الصعوبة، ربما تكون غير مسبوقة بسبب مصاحبتها لغياب حالة الاستقرار الأمنى الكامل. تسود حالة ركود وضعف اقتصادى، زيادة أعداد المتعطلين، تدهور الخدمات العامة، وفوق ذلك تصاعد مستوى الغلاء وارتفاع الأسعار. كان طبيعياً أن تتعالى الشكوى من تبعة هذه الصعوبات التى جاءت على النقيض من التوقعات الثورية، ولكن لم يكن طبيعياً أن يعمد الكتاب والإعلاميون وأصحاب الرأى (وكلهم من الطبقة المتوسطة والعليا) إلى تعميم قائمة المتضررين لتضم إلى جانب الفقراء فئات الطبقة المتوسطة، بل يتبارى هؤلاء فى المبالغة فى بيان مشاهد معاناة هذه الطبقة وتدهور أوضاعها وحتى اختفائها. لا يخفى أن لدينا مشكلة فقر حادة وأن الأحوال الاقتصادية أصبحت صعبة على الجميع.
ما هى حقيقة وضع الطبقة المتوسطة؟ هناك دائماً منهجان فى تناول أوضاع الفئات والطبقات الاجتماعية. إما أن نقيس تغير أحوال فئة معينة عبر فترة زمنية محددة، مستوى المعيشة ( الدخل، السكن، حيازة أصول) فى فترة سابقة بالمقارنة مع الحالة الراهنة. أو إلى جانب قياس الوضع المطلق يمكن أن نبحث فى الوضع النسبى للأسرة أو الفئة الاجتماعية من خلال مقارنتها مع غيرها من الشرائح أو الفئات. الأزمة الاقتصادية الحادة تستوجب التوافق ـ لا التنازع ـ حول أساليب المواجهة. ولعله لنا عبرة فيما جرى بعد هزيمة يونيو 1967 وتوجيه كل موارد المجتمع لصالح «المجهود الحربى». بصراحة وبغير تردد يجب على فئات الطبقة المتوسطة أن تقبل برضا وفهم أى تضحيات يتطلبها التقشف ضمن برامج للإصلاح الاقتصادى، وأن يكف المتحدثون باسمها عن المزاوجة فى توصيف المتاعب بين هذه الطبقة وبين الفقراء وعن المبالغة فى تعميق الإحساس بوطأة المشكلات والمعاناة وتقبل حلول ضرورية دون تواصل إلقاء اللوم على المسئولين.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة