سيدرك صناع القرار الأميركيون أنهم فتحوا على أنفسهم أبواب جحيم ليس من السهل إغلاقها، لاسيما مع إعلان عدد من الدول عزم مواطنيها رفع دعاوى قضائية ضد الجيش الأميركي، الذي ارتكب جنوده العديد من المجازر
أقر الكونجرس الأميركي بخطأ قانون جاستا الذي أقره مؤخرا، وشرع في إجراء عمليات تحسين وترقيع، تراعي مصالح الأمن القومي الأميركي، وحصانة العسكريين والدبلوماسيين من الملاحقة على خلفية الأخطاء التي ارتكبوها في العديد من الدول التي تورطت الولايات المتحدة فيها. وبالنظر إلى تلك الإجراءات التي اتخذها الكونجرس، بعد أيام قلائل من إقرار القانون، يتضح حجم الأزمة التي يعيشها برلمان أكبر دولة في العالم، والتسرع الذي شاب إعداد القانون وإقراره، يرفع علامات استفهام كبيرة حول الأسباب الحقيقية وراء الإقدام على هذه الخطوة، فقد يكون من السهل استيعاب أن تقع دولة صغيرة في خطأ كهذا، ولكن ليس من المفهوم أن يحدث ذلك في دولة لا يزال أغلب سكان العالم ينظرون إليها على أنها دولة عظمى تقود العالم.
ولا يفوت على فطنة أي مواطن بسيط أن مراحل إقرار القوانين في البرلمانات والهيئات التشريعية تمر بمراحل معقدة، وأن هناك لجانا قانونية وقضائية متخصصة ذات كفاءة عالية، تمحص مشاريع تلك القوانين وتدرسها بعناية شديدة، قبل أن تقدمها للنواب للتصويت عليها، ومن ثم إقرارها، لضمان عدم تضمينها ثغرات قد تؤدي إلى انتقاص العدالة أو الإخلال بموازينها، فكيف مر مشروع قانون جاستا على النواب قبل خضوعه لتلك المرحلة الأساسية؟ وكيف لم يفطن المشرعون لتلك الثغرات والمثالب قبل تصويتهم؟ والسؤال الأكثر أهمية: ما هو سر الموافقة الكبيرة بغالبية عظمى على مشروع القانون؟ وأين كان نواب الحزب الديمقراطي الذين أعلن رئيسهم باراك أوباما معارضته العلنية للقانون، واستخدامه حق النقض في مواجهته؟ وهل هناك أهداف غير معلنة وراء ذلك الإجماع؟ ولماذا لم يتوافق الحزب الديمقراطي مع رأي أوباما؟ أم أن الأمر مجرد توزيع للأدوار، لتجنب الحرج؟
أما التعديلات التي يحاول أعضاء الكونجرس إدخالها على القانون، لتجنيب العسكريين والدبلوماسيين الأميركيين خطر الملاحقات القضائية، فهي بدعة قانونية جديدة، غير مسبوقة، فالمساواة أمام القانون بديهة ومن المسلَّمات، فكيف تريد دولة بحجم الولايات المتحدة استثناء مواطنيها من ممارسات تسعى لمحاسبة الآخرين عليها؟ وإذا حدث وتم إقرار تلك التعديلات فإن القانون ينبغي أن يتم تغيير اسمه إلى "قانون جاستا ذو العين الواحدة".
من المآخذ الأساسية التي يحسبها العالم على الولايات المتحدة هو أنها تتصرف وكأنها دولة فوق القانون، وأن كل ما تقوم به من تجاوزات يصب في مصلحة العالم، وهذه النظرة النرجسية ربما تكون السبب الرئيسي في حالة التباعد النفسي الذي يشعر به معظم سكان العالم تجاهها، بسبب تصرف قادتها وكأنهم أوصياء على العالم، يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، وأن الآخرين بشر من الدرجة الثانية.
ومنذ انتهاء عهد القطبية، وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، انفردت واشنطن بمفاصل القرار السياسي في العالم، واختصت نفسها بالتحكم في مصائر الدول الأخرى، ومن المؤسف أنها لم تنطلق في سياساتها من المنطلق الذي يجب أن يتعامل به الكبير، بل تحكمت المصالح الذاتية في قراراتها وسياساتها وتوجهاتها، بدرجة أثارت عليها النقمة، وجلبت لها السخط، ولكن لا يبدو أن هذا الوضع قابل للاستمرار، لاسيما مع بروز قوى ناشئة في طريقها لمزاحمة التفرد الأميركي وإلغائه، فالصين تكاد تصبح الدولة الأولى المهيمنة على اقتصاد العالم، وروسيا بدأت تبحث عن أمجادها الغاربة، ولعل الدور السالب الذي تلعبه في سورية وأوكرانيا ما هو إلا ردة فعل لهزيمتها في أفغانستان، وإعلان لقدرتها على المناكفة بالوسائل العسكرية، حتى وإن كانت –من الناحية الاقتصادية –بحاجة إلى سنوات طويلة للعودة إلى مكانتها السابقة.
وبحسابات السياسة المحضة، يتضح أن الولايات المتحدة، التي فقدت ريادتها وسيطرتها على الآخرين، في طريقها لخسائر فادحة، إن استمرت على نهجها الحالي، فمنطقة الشرق الأوسط عموما والمملكة على وجه الخصوص، ظلت خلال العقود السابقة هي الحليف الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة، وسببا رئيسيا في استقرار المنطقة، وبالتالي عاملا لاستقرار الاقتصاد العالمي، من خلال ضمان توفر النفط في الأسواق العالمية، بأسعار لا تخضع لعوامل الابتزاز، وبما يحقق العدالة للجميع، لكن يبدو أن كل ذلك في طريقه للزوال، بعد ثماني سنوات قضاها أوباما في مقعد الرئاسة، بسياساته المترددة، وعدم قدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة، وتردده في كبح جماح النظام الإيراني الذي ظل مصدرا للإرهاب وعدم الاستقرار في العالم أجمع، وسماحه –أي أوباما -باستمرار الأزمة السورية التي باتت خطرا داهما ينذر باحتمال تفجر حرب عالمية جديدة، وأخيرا وليس آخرا عدم قدرته للتأثير على نواب حزبه.
أيا كانت الأسباب والدوافع، ومهما كانت مسببات تمرير القانون، فإن المملكة قادرة على التصدي له، ولديها من الأوراق، إن أحسنت استخدامها، ما يمنحها القدرة على مواجهته، وتجنب آثاره، وفي مقدمتها موقفها القانوني السليم، وعدم ارتباطها بمنفذي أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وإذا كان مشرعو الدولة العظمى المفترضة أو بعض أجهزتها تظن أن بمقدورها ممارسة الابتزاز المالي والسياسي بسبب هذا القانون، فهذه النظرة الضيقة سيتكشف ضررها في القريب العاجل، وسيدرك صناع القرار الأميركيون أنهم فتحوا –بأيديهم –على أنفسهم أبواب جحيم ليس من السهل إغلاقها، لاسيما مع إعلان عدد من الدول عزم مواطنيها رفع دعاوى قضائية ضد الجيش الأميركي، الذي ارتكب جنوده العديد من المجازر والمآسي في كل الدول التي تدخل فيها، وستكون قنبلتا هيروشيما وناجازاكي في اليابان، ومجازر فيتنام، وفظائع سجن أبوغريب في العراق كوابيس تؤرق مضاجعهم، وسيكون مبدأ المعاملة بالمثل من خلال سن قوانين في تلك الدول تعطي أهالي الضحايا الحق بالملاحقة القضائية بحق المسؤولين الأمريكيين عن أفعالهم تجاه هؤلاء الضحايا ..
نقلًا عن صحيفة الوطن اون لاين
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة