ربما تصلح كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في هذه المناسبة مدخلاً إلى فهم جانب من جوانب شخصيته التي خُلقت لتحمُّل رسالة كبرى
في كلية زايد العسكرية كان اللقاء في السادس من أكتوبر، القاعة الفسيحة بسيطة التأثيث كما يليق بمكان يحتضن لقاءات رجال أعدوا أنفسهم لحياة الجندية الخشنة، تنطق عيونهم الفتية بالعزم والإصرار والجدية، منتظمين في صفوف حسب التخصصات التي سيلتحقون بها، يتقدمهم في الصفوف الأولى القادة الذين اختاروا خدمة الوطن في أشرف موقع: القوات المسلحة. وكل العيون وكل القلوب مشدودة بقوة الهيبة والمحبة إلى نقطة واحدة، في صدر القاعة، حيث كان الرجل صاحب القامة النبيلة كنخلة باسقة، يتحدث إلى أبنائه من القلب ومن العقل، فيصل حديثه، وما وراء حديثه، في اللحظة ذاتها.. إلى قلوب الحضور وعقولهم.
ربما تصلح كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في هذه المناسبة مدخلاً إلى فهم جانب من جوانب شخصيته التي خُلقت لتحمُّل رسالة كبرى، ولتُنجز تحولات عظيمة يستمر أثرها طويلاً، وربما يمكن للتوقف أمامها والتأمل فيها أن يُفسرا جانباً من حضوره الطاغي أينما حل، ومكانه الذي لا يُدانى في وجدان أبناء الإمارات، صديقاً وأخاً وأباً ومعلماً وقائداً ومُلهماً ورمزاً وأنموذجاً لكل ما هو أصيل ونبيل وجميل على هذه الأرض الطيبة.
اختار محمد بن زايد أن يرتجل، فلم يُلقِ خطبة مكتوبة كما يفعل كثير من رجال السياسة التماساً للأمن وتجنباً للعثرات والهفوات وزلات اللسان. ورغم الارتجال كان الحديث موزوناً بميزان الذهب، فلا حشو ولا استطراد ولا تكرار، بل وصول إلى الهدف بأقصر طريق، وأجلى عبارة.
لا وقت للمقدمات في مثل هذا الحديث، ولا وقت للتمهيد المطول أو العبارات الافتتاحية، بل دخول مباشر إلى جوهر القضايا التي يريد مناقشتها. كانت العبارات الأولى: "الله يرحم شهداءنا، ويشفي إن شاء الله جرحانا، وينصركم أنتم دائماً بالعز". إنه يقين بالله أولاً، وبرحمته، وأسبقية الشهادة كأسمى ما يجدر به أن يُذكر بعد اسمه تعالى، والدعاء بالشفاء لمن خاض غمار أشرف المعارك، وطلب النصر عزيزاً مؤزراً.. هذه بعض معاني العبارات الثلاث التي بدأ بها القائد حديثه.
ويمكن لمن يتابع الكلمة أن يتأمل في موضوع كل فقرة من الحديث، وكيف تقود إلى ما يليها في سلاسة ويسر، ولو كانت مساحة المقال أوسع لفصلت في ذلك كثيراً.
كان محمد بن زايد يرتجل، لكن الكلمات لم تغب عنه مرة واحدة.. لم يتردد مرة واحدة.. لم يغب تركيزه وحضوره الذهني لحظة واحدة، وما أكثر ما يتلجلج المرتجلون.. أو ينطقون كلمات ليس في محلها، أو يتحدثون ويصححون وينطقون الكلمات مبتورة، أو تكثر لديهم التأتأة وتعصاهم المفردات.. كان حديثاً يشبه عدو حصان أصيل في مضمار السباق.. بكل ما فيه من انسياب رشيق نحو الصدارة.. واثق الخطو.. ثابت الجنان.
الجمل كانت قصيرة، لكنها مكتملة التعبير، تعكس الحزم والوضوح باعتبارهما سمات واضحة للشيخ محمد بن زايد، فعادة ما يبدأ المرتجلون جملاً لا يكملونها، لتظل فاقدة لأحد أركانها وفق الاصطلاح النحوي.. لكن محمد بن زايد لم يبدأ جملة إلا ليُنهيها.. الجمل غير المكتملة الأركان ليست مجرد خطأ لغوي.. بل هي بالأحرى علامة على فكر مشوش.. على تصورات مهتزة وغير مكتملة.. السيطرة على الجملة هي سيطرة على الفكرة.. الجمل الدقيقة -خاصة إذا كانت مرتجلة- دليل على عقل في تمام يقظته وسيطرته على أدواته، ووضوح الأفكار والمعاني كأفضل ما يكون الوضوح.
وضوح الحديث ومباشرته لم يُغيِّب الجانب الآخر.. جانب الجمال اللغوي الذي يُعدُّ لصيقاً بالعربي.. صاحب الميراث الأدبي الثري، فصيحاً ونبطياً.. وقد أطل هذا الجمال اللغوي علينا في غير موضع من حديث صاحب السمو.. فحين تحدث عن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان قال: "توسد يمناه، وجاور ربه".. بكل ما يختزنه اليمين من يمن وبركة وخير، وكل ما يعد به جوار الله من قرب ونعيم في دار الخلد.
الجمال اللغوي، والحس البلاغي العالي، يجتمع مع الدقة في كثير من التعبيرات، ففي توضيحه طبيعة المجال العسكري وضرورة الاحتراف فيه يعبر صاحب السمو قائلاً: "الاحتراف في هذا المجال فرض.. الاحتراف في هذا المجال مصير.. الاحتراف في هذا المجال حياة أو موت".. فهذا البناء الإيقاعي المتصاعد للجمل لا يعكس فقط خضوعاً لأسر جمال التعبير، بل يعكس المعنى في الوقت ذاته بأعلى دقة، وباللفظ المختار، ويمكن تأمل هذا التصاعد في اللفظ الختامي الذي انتهت به كل عبارة: "فرض.. مصير.. حياة أو موت".
أخيراً، هناك تلك اللغة الوسطى التي اختارها صاحب السمو، لتقترب في أحد وجهيها من فصاحة العربية ونصاعتها، ولتقترب في وجهها الآخر من اللهجة الإمارتية دون إغراب أو إيغال فيها، وليس ذلك مجرد اختيار لغوي، بل تصور فكري للارتباط بالواقع مع إبقاء الصلة وثيقة بالجذور.
هذه، باختصار، قراءة تكشف عن جانب من جوانب التميز في شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، يمكن أن نضيف إليها ثبات الصوت ووضوح الكلمات وضوحاً تاماً لكل السامعين، والحفاظ على الهدوء والسيطرة التامة على الانفعالات، إلى جانب لغة الجسد التي انعكست فيها قوة الشخصية والرزانة والتحكم التام في النفس.
لم أتوقف كثيراً في هذه العجالة عند المضمون، وهو يحتاج إلى عشرات الصفحات، لكنني سأقدم للقراء الأعزاء ملاحظة أخيرة: لقد غابت "الأنا" تماماً عن كلمة الشيخ محمد.. وهكذا هم الكبار دائماً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة