التحرك الأمريكي سيمضي في اتجاه تبني إجراءات انفرادية،
ستتحرك الإدارة الأمريكية في ملف الصراع العربي الإسرائيلي في الفترة المقبلة -وعقب تنفيذ قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس رسميا- في عدة مسارات.
الأول: قياس رد الفعل العربي والفلسطيني سياسيا وميدانيا من خلال رصد وتحليل المواقف الرسمية للأطراف المعنية، ومدى اتساقها مع المواقف غير الرسمية التي أبدتها دوائر عربية، بما في ذلك موقف الجامعة العربية بعد عقد اجتماعها مؤخرا، والتحركات العربية في الأمم المتحدة خاصة من قبل الوفد الفلسطيني، ومسعاه لإحداث اختراق في الموقف الأمريكي الذي بات يتحرك عبر مسارات ثنائية مع الجانب الإسرائيلي فقط مع تأجيل التنسيق مع الأطراف الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، والانتظار بعض الوقت لمعرفة أبعاد الموقف الروسي تجاه الضغوط الفلسطينية لإعادة تسويق خيار مؤتمر موسكو للسلام في الشرق، خاصة مع رفض الجانب الفلسطيني استئناف أية اتصالات فلسطينية أمريكية، والمطالبة بتوسيع إطار التفاوض ليشمل أطرافا أخرى، وهو ما دعا إليه الرئيس محمود عباس في كلمته مؤخرا بمجلس الأمن، ومتمسكا بإعادة طرح المبادرة العربية باعتبارها خيارا عربيا مباشرا لن يتم الرجوع عنه.
التحرك الفلسطيني يجب أن يرتبط بخطة عمل مرحلية قبل الذهاب إلى دورة سبتمبر المقبل في الجمعية العامة، وتنفيذ المطلب الفلسطيني بالحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، مع البدء جديا في تبني إجراءات متعلقة بوضع الأراضي العربية المحتلة تحت الائتمان الدولي، وتنفيذ مطلب الحماية الدولية.
ومن ثم فإن التحرك الأمريكي سيمضي في اتجاه تبني إجراءات انفرادية، مع تجنب الصدام المباشر مع الفلسطينيين، وإفشال أية خطوة لنقل الملف الفلسطيني إلى الواجهة الدولية أو مجلس الأمن، كما جرى عندما حاول الجانب الفلسطيني المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية في الأحداث التي شهدتها منطقة الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل يوم افتتاح السفارة الأمريكية في القدس.
الثاني: البدء جديا في طرح رؤية الإدارة الأمريكية تجاه شكل ومضمون التسوية المقترحة التي تجاوزت حديث الصفقة السابقة، وحسابات المكسب والخسارة كما يتصورها البعض إلى رؤية متكاملة بالفعل بعد أن انتهى جيسون جرنبلات وجاريد كوشنر مبعوثا السلام في الشرق الأوسط، إضافة لديفيد فريدمان السفير الأمريكي في تل أبيب، من صياغة النقاط الأخيرة وبعد أن شاركت عدة بيوت خبرة ومراكز تفكير أمريكية في صياغة بعض البنود، خاصة التي ستكون محل تحفظ فلسطيني، ومنها الخاصة بوضع القدس، واختيار ضاحية أبوديس لتكون العاصمة البديلة، وإطلاق اسم القدس الجديدة عليها تحسبا لتحفظ الجانب الفلسطيني، مع الإقرار بنقل صلاحيات محلية للجانب الفلسطيني من مناطق ج، وفقا لاتفاقية أوسلو التاريخية التي أقرت المركز السياسي والجغرافي للسلطة الفلسطينية، مع تقديم تسهيلات اقتصادية واستثمارية كبيرة للفلسطينيين للإقدام على هذه الخطوة، وتفاصيل أخرى متعلقة بترتيبات الأمن ووجود القوات الإسرائيلية في غور الأردن، وإتمام ما يعرف بتبادل الأراضي بين الجانبين في حدود 2-4% كما هو مقدر، وإنجاز فكرة التوطين المتبادل وفق خطة زمنية كاملة، وإعادة تدوير فكرة عودة اللاجئين إلى الداخل الفلسطيني في ظل اعتبار إشكالية اللاجئين قضية إنسانية وليست سياسية، وهو ما سيدفع إلى إعادة التأكيد على وجود حلول يجب أن يشارك فيها الجميع، وليس الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي فقط، وهو ما سيدعو واشنطن للتركيز على الجانب الأردني بالأساس في الفترة المقبلة، بديلا مؤقتا عن الجانب الفلسطيني إلى حين استئناف الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية رسميا، في حال قبول الجانب الفلسطيني ببعض نقاط المخطط الأمريكي، وإن كان من المتوقع مسبقا أن يُرفض المخطط بأكمله على المستوى الفلسطيني.
الثالث: من واقع معايشتي ومشاركتي في المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لسنوات منذ حقبة التسعينيات أستطيع أن أجزم أن فريق المفاوضين الحالي بما فيهم السفير الأمريكي ديفيد فريدمان ليسوا ملمين بصورة كاملة بملف الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ملف معقد وملغم، ويشمل إشكاليات عديدة ومفتوحة على مشاهد وسيناريوهات مختلفة، ولا يقتصر على الجانبين فقط، بل هو ممتد إلى أطراف عدة في الإقليم وخارجه، ومن ثم فهو يحتاج إلى تعاملات من نوع خاص، وفرق دبلوماسية أمريكية على أعلى مستوى، وليس مجموعة من الدبلوماسيين حديثي العهد بصراع ممتد لسنوات طويلة، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية لتكشف عن مواقف الخبراء والاستشاريين في مراكز البحوث الشهيرة سواء في بروكينجز، والشرق الأدنى، والتقدم، وأطلنطا، حول مشروع التسوية الذي خضع لمراجعات وتفسيرات وتحليلات عدة، ولم يعد المشروع الذي تسرب وعرض منذ عدة أشهر.
وقد التقيت مؤخرا بأحد الباحثين الكبار في الجامعة الأمريكية، وهو في الوقت نفسه أحد أهم مستشاري الفريق التفاوضي في إدارة الرئيس ترامب الذي أسرّ إلىّ بأن الإدارة الأمريكية بالفعل أوشكت على طرح المشروع بالكامل على طريقة الصفقة الكاملة، إما أن تُقبل من الطرفين أو تُرفض، وأن الإدارة الأمريكية في حال الرفض ستتبع مسارا تفاوضيا بديلا يعتمد على خيار الفرض والجبر وعدم التفاوض، وأنه لا توجد حلول وسط أو خيارات في منتصف الطريق، وأن الرئيس ترامب -كما يرى الأكاديمي الأمريكي- يضع على رأس أولوياته في الوقت الراهن أن يبلغ الولاية الثانية، وأن يحصل على جائزة نوبل للسلام، وأنه يرى في نفسه بأنه الرئيس الذي حقق لإسرائيل ما لم يحقق لها أي رئيس آخر، ولم ينسَ أن يذكرني بأن اللوبي اليهودي سيلعب دورا كبيرا ومهما في الانتخابات الرئاسية المقبلة، متجاوزا الدور الراهن في الخريطة الانتخابية الأمريكية التقليدية.
الرابع: نحن إذا أمام مخطط أمريكي كامل، وليس مجرد سياسات أو إجراءات أو مواقف، ومن ثم فإن الرهانات الفلسطينية الحالية ليست الرهان على إفشال التحركات الأمريكية، أو التصدي لها فقط بل ستتطلب مراجعة كاملة في المواقف الدولية مع تبني مسارات جديدة تتجاوز ما هو قائم خاصة، أن مرحلة ما بعد اتخاذ الإدارة الأمريكية لموقفها المباشر بنقل السفارة تدفع لتحرك الجانب الفلسطيني في اتجاهات عدة بدأت بجولات وزيارات الرئيس محمود عباس لباريس والاتحاد الأوروبي، وروسيا وعواصم عدة، وهو ما تكرر مؤخرا عندما قام الرئيس عباس بجولته في أمريكا اللاتينية.
ومن ثم فإن التحرك الفلسطيني يجب أن يرتبط بخطة عمل مرحلية قبل الذهاب إلى دورة سبتمبر المقبل في الجمعية العامة، وتنفيذ المطلب الفلسطيني بالحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة مع البدء جديا في تبني إجراءات متعلقة بوضع الأراضي العربية المحتلة تحت الائتمان الدولي، وتنفيذ مطلب الحماية الدولية إلى حين تقرير وضع الأراضي المحتلة بصورة نهائية، وهو المخطط العملي والفعلي إلى جوار حلول أخرى مقترحة تبدأ بالالتحاق بـ22 منظمة دولية، وانتهاء بطرح خطة إعلامية وسياسية لنزع شرعية إسرائيل في المحافل الدولية، وهو إجراء يزعج الحكومة الإسرائيلية فعليا، ويضعها في مأزق سياسي وقانوني بعد سنوات طويلة من إنشائها قبل 70 عاما.
الخامس: ستركز الإدارة الأمريكية في الفترة المقبلة على ثلاث عواصم عربية رئيسية، وهو ما برز في جولة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مؤخرا، وهي السعودية والأردن، ومصر (رغم عدم زيارتها)، وهي الأطراف التي ترى الإدارة الأمريكية أنها نقطة ارتكاز لمساعي السلام والتسوية، انطلاقا من وقائع وخبرات وتطورات تشهدها المنطقة، خاصة أن السعودية رئيسة القمة العربية رسميا.
كما أن الأردن مسؤولا عن إدارة المقدسات الإسلامية رسميا، وشريك رئيسي في إدارة المفاوضات، ولا يمكن استبعاد دوره في أية اتصالات أو مفاوضات مقترحة، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية ستعمل على إحداث اختراق في الموقف الفلسطيني، ومحاولة دفعه لحافة الهاوية للإقدام على خطوات بديلة، وإن كان من غير المتوقع أن يتراجع الجانب الفلسطيني خاصة بعد تتالي الصدامات، والتي ستتزايد في الفترة المقبلة مما سيضع الإدارة الأمريكية في حرج دولي، خاصة في حال دخول الجانبين الروسي والفرنسي على الخط ومحاولة إعادة تدوير دورهما وهو متوقع في الفترة المقبلة، استثمارا لما يجري في الأراضي المحتلة من تظاهرات مرشحة للاستمرار بعض الوقت.
إن الإدارة الأمريكية الحالية بأشخاصها وأسمائها لن تستطيع أن تفرض مسارا واحدا للتسوية أو المفاوضات، ولا يمكن أن تنجح -قولا واحدا- في المضي قدما في تصفية قضايا المفاوضات، وإذا كان ملف القدس قد طرح واتخذ فيه إجراء أمريكيا ونُفذ بالفعل فإن سائر الملفات الأخرى ستكون محل تعامل في الفترة المقبلة، ولن تقتصر على قضية اللاجئين من خلال الضغط على الوكالة الدولية "أونروا"، وإنما ستمتد إلى فتح ملف المستوطنات أيضا، وهو ما قد يؤدي لتداعيات كبيرة ستكون مكلفة خاصة، وأن الداخل الإسرائيلي -بصرف النظر عن التهويل في القدرات العسكرية الإسرائيلية- لن تصمد كثيرا في مواجهة جبهة غزة وجبهة جنوب سوريا المتوترة، والشمال حيث حزب الله لن تتحمل كثيرا.
لن تهدأ المنطقة، والإقليم بأكمله مرشح لمزيد من الاضطراب، والإدارة الأمريكية ستتحمل نتائج ما سيجري، ولننتظر لنشاهد كيف سيكون الوضع القادم في الشرق الأوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة