كما نعلم، فإن التطورات التكنولوجية تأتي على شكل موجات متلاحقة، كل موجة من الاختراعات والتطورات تضيف وتبني على ما سبقتها، وتنقل البشرية معها لأبعاد جديدة لم تكن متوقعة سابقًا.
الملاحظة الهامة أن كل موجة من التطورات والاختراعات يرافقها ارتفاع بقدراتنا على الإنتاج، وفي الوقت نفسه يرافقها ارتفاع بالقدرة على الاستهلاك.. الارتفاعان بالقدرات الإنتاجية والاستهلاك كانا ولا يزالان يظهران في شكل تطور ونمو اقتصادي مع كل موجة جديدة من التطورات.
وكما نعلم جميعًا، فإننا نعيش على كوكب محدود الموارد الطبيعية.
وتاريخيًّا، الوصول إلى الموارد الطبيعية من مواد خام وقدرات إنتاج المحاصيل الزراعية ومصادر الغذاء، كان لفترة طوية من عمر البشرية محددًا بالجغرافيا والمواسم والمساحات المتاحة وإمكانية التخزين والنقل.. لكن التطورات التكنولوجية بمختلف أنواعها سمحت لنا اليوم بزيادة كفاءة كل شيء.
اليوم، أصبحت المساحات الزراعية السابقة نفسها قادرة على إنتاج المزيد من المحاصيل، بدورات زمنية أقصر ومتعددة.. حسّنَّا نوعية المنتجات، قلّلنا من مخاطر إصابتها بالأمراض، بنَينا السدود وأنظمة الري لنؤمّن بيئة حياة مناسبة لها، وأمَّنت التكنولوجيا آلياتٍ لنقل المنتجات لأسواق بعيدة لم تكن متوقعة، وكذلك تمكنَّا من حفظها لأوقات الحاجة إليها، وأعدْنا تصنيعها لتكون بأشكال جديدة ضمن منتجات لم تكن موجودة قبل 100 عام.
مجموعة متناغمة من التطورات والاختراعات أسهمت معًا في بناء منظومة متكاملة من وسائل الإنتاج، والنقل، والتسويق، والدفع، لتجعل مواردنا، التي كانت تُعتبر محدودة سابقًا، أكثر من كافية، مع توقع استمرار ارتفاع قدرتنا الإنتاجية مستقبلا.
لنعُد إلى فكرة موجات التطورات التكنولوجية، ولن أعود لفترة طويلة، سأتجاوز حقبة الثورة الصناعية واختراع المحركات البخارية، وأنتقل مباشرة لاختراع "أديسون" المصباح الكهربائي.. عمر هذا الاختراع، الذي أنار العالم، أقل من 150 سنة.. بشكل مباشر، سمح انتشار المصباح الكهربائي بزيادة ساعات العمل، وبالتالي القدرة على الإنتاج.. وفي الوقت نفسه القدرة على العمل لفترات أطول تطلَّب المزيد من الأيدي العاملة، والتي زاد ارتفاع عددها من قدرة الاقتصادات على شراء المنتجات والخدمات.
الحقيقة -في ذلك الزمان- كان التأثير الاقتصادي غير المباشر لاختراع المصباح الكهربائي لا يقل أهمية أبدًا عن أثره المباشر، المتعلق بموضوع زيادة القدرة على الإنتاج، حيث بدأ اختراع المصباح الكهربائي سلسلة أحداث متتالية، كلها خلقت المزيد والمزيد من فرص الأعمال والنمو، فإيصال الإضاءة إلى المنازل تطلَّب تطوير البِنى التحتية من شبكات كهرباء ومولدات ومصانع وأسلاك، وإنشاء مؤسسات لإيصال هذه الخدمة الجديدة إلى المستهلكين، والكثير الكثير من التفاصيل، التي خلقت كلها سلسلة من القيمة المضافة في الاقتصاد والمزيد من فرص العمل في المجتمعات.
حقق كل هذا انتعاشًا اقتصاديا واسعا ناتجا عن زيادة القدرات الإنتاجية للمجتمع بالاعتماد على تطور تقني.
بعد اختراع المصباح الكهربائي، تسارعت الموجات التقنية، فتطورت وسائل الاتصال بشكل كبير.. ظهر التلفاز، وبعده الكومبيوتر، ثم غذّى المنازل، ثم ظهرت الإنترنت، والهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي... كل موجة من هذه الموجات خلقت معها فرص أعمال كبيرة لم تكن موجودة سابقًا، وفي الوقت نفسه خلقت معها فرص توظيف للملايين، وتوفير تنمية اقتصادية لم يكن لها وجود دون هذه التطورات التقنية.
طبعًا، التسلسل السابق لموجات التطورات التقنية ليس وصفا علميا دقيقا لتتابع جميع الاختراعات.. هو وصف مختزَل أردتُ به فقط توضيح الخطوط العامة لفكرة تتابع التطورات التقنية، وكيف بُنى كل تطور واختراع على ما قبله، وجلب معه نموًّا اقتصاديا من خلال خلق المزيد من فرص الأعمال.
اليوم، نحن على أبواب عالم الميتافيرس، والذي يمثل تطورا تقنيا جديدا، والمتوقع ألا يقل تأثيره حجمًا عن ظهور شبكات التواصل الاجتماعي.. مفهوم جديد برؤية ثورية تمتد لمختلف القطاعات، ويخلق معه فرصا لتحسين جودة حياة المجتمعات، وتجربة الأشخاص، وفي الوقت نفسه يقدم فرص أعمال جديدة لم تكن موجودة سابقًا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة