في طريقها إلى نيويورك لحضور اجتماعات الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، تقول رئيسة وزراء بريطانيا، ليز تراس، إن بلادها لا تستعجل إبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
والأمر أن "تراس" استبقت بهذا التصريح لقاءها مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، لأنها تدرك أن إدارة "البيت الأبيض" اليوم هي امتداد لعهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي قرر معاقبة لندن على "طلاقها" مع بروكسل، وقال إنه سيضعها في ذيل قائمة العواصم، التي قد تنعم يوما بتجارة حرة مع بلاده.
لولا الحرب الأوكرانية لتراجعت العلاقات الأمريكية البريطانية في "ولاية أوباما الثالثة"، بسبب "بريكست".. ولولاها أيضا لعاشت المملكة المتحدة خصومة فجة وعداءً واضحًا مع الاتحاد الأوروبي.. خاصة بعد تعثر تنفيذ اتفاق التجارة الذي أبرم بين الطرفين نهاية 2020، بسبب بروتوكول أيرلندا الشمالية.
أما وقد وقعت الحرب، فبات من الضروري على جميع دول الغرب تجميد الخلافات أو تنحيتها جانبا، لأن "العدو" الروسي يشكل تهديدا أكبر بكثير من مليارات الدولارات أو آلاف العابرين لبحر المانش.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باح بذلك صراحة في أول لقاء مع "تراس"، عقب محادثاتهما على هامش اجتماعات نيويورك.. قال "ماكرون" إن الوقت قد حان لتجاوز خلافات البلدين، والمُضي قدما نحو تلبية المصالح المشتركة.. وعلى رأس هذه المصالح طبعا مواجهة الروس، والرد على المرحلة الجديدة التي بدأها بوتين في الحرب الأوكرانية، من خلال قرار ضم أربع مناطق هي لوهانسك ودونيتسك وخيرسون زاباروجيا، وإعلان التعبئة العسكرية الجزئية من أجل الدفاع عن "أراضي الدولة الجديدة".
رئيسة وزراء بريطانيا تمضي على خطى سلفها بوريس جونسون في دعم أوكرانيا ضد روسيا.. لا تلجأ إلى ذلك هربا من نقمة داخلية كما فعل جونسون في الأشهر الأخيرة من حكومته، وإنما "فرارا" من مشكلات مستقبلية قد تحصل في الداخل والخارج.. فكثيرة هي الملفات المعلّقة بهذه الحرب، من موارد الطاقة وأسعارها، وصولا إلى العلاقات الاستراتيجية بين الشرق والغرب، مرورًا بميزانيات الدفاع وصناعة السلاح، والتفاوض على النقاط الخلافية بين الحلفاء استنادا إلى حجم الدعم المقدم لكييف وغاياته.
ثمة أسئلة مشروعة من قبيل: ما المكاسب التي يمكن أن تحصدها "تراس" من دعم أوكرانيا، وتساعدها في حل مشكلات الاقتصاد البريطاني وأزمة كلفة المعيشة في بلادها؟.. وماذا يمكن أن تقدم الولايات المتحدة للمملكة المتحدة اقتصاديا بعيدا عن اتفاق التجارة الحرة؟.. وهل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يغض الطرف عن مشكلات "بريكست" مقابل الدعم البريطاني لأوكرانيا؟.. وهل خطة "تراس" لإنقاذ الاقتصاد تحتاج إلى تغطية سياسية عنوانها الرئيسي دعم أوكرانيا، أم أن دعم الاقتصاد الوطني ضروري لدعم أوكرانيا؟
الولايات المتحدة أكبر شريك اقتصادي للمملكة المتحدة بعد الاتحاد الأوروبي.. كل جنيه من بين 6 جنيهات تدخل للاقتصاد البريطاني تأتي من أمريكا.. وبالتالي تهميش اتفاق قد يضاعف هذه النسبة مرتين أو ثلاث مرات، إما أن يكون بدافع المعرفة المسبقة برفض الطرف الثاني إبرامه.. وإما أنه إعلان مبكر من لندن رفض أي محاولة من واشنطن للضغط عليها من أجل التراجع عن تعديل اتفاق "بريكست" وتعطيل العمل ببروتوكول أيرلندا الشمالية.. أي رفض التدخل في الشؤون البريطانية من قبل الحليف الأمريكي.
بالنسبة لإدارة الرئيس بايدن، فالأولوية الآن للجبهة الأوكرانية، ثم الخصومة المقبلة مع الصين.. وما دامت الخلافات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قابلة للاحتواء، ولا تؤثر قيد أنملة في الأولويات الأمريكية، فلا ضرورة لأي موقف مباشر ضد لندن عقابا على "طلاقها" من بروكسل.. فالعلاقة الاقتصادية القائمة مع المملكة المتحدة تكفي إدارة بايدن، وتواكب خططها في حشد الدعم الشعبي للديمقراطيين في الانتخابات النصفية القريبة، أو الاستحقاق الرئاسي المقرر في 2024، ولذلك لا حاجة لأمريكا إلى تطويرها.
على ضفة الاتحاد الأوروبي، قد تُبدي بروكسل مرونة أكبر في التعاون مع "تراس" مقارنة بما كان عليه الوضع في عهد جونسون. ولكن هذه المرونة لا تتناسب طرديًّا مع حجم الدعم البريطاني لأوكرانيا، بقدر ما تواكب الانفتاح الذي تبديه رئيسة الوزراء إزاء حل الخلافات القائمة بين بلادها والتكتل.. فالحوار يأتي بالحوار، والقرارات تستدعي القرارات.. وعلى ضوء القرارات يصنَّف قادة أوروبا بين صديق وعدو وفق "نظرية" تراس.
ما يعني الاتحاد الأوروبي في الدعم البريطاني لأوكرانيا، ليس كمّه وإنما كيفه.. أي إن هذا الدعم يجب أن يكون في سياق مواجهة الحلفاء الغربيين للروس، وليس سعيا لتوسعة نفوذ المملكة المتحدة في القارة العجوز، أو محاولة لإحراج الاتحاد الأوروبي، ودفعه نحو زيادة المساعدة العسكرية لكييف بما يتوافق مع أهداف لندن وسياساتها الخارجية والداخلية.
وهذا ما فعله رئيس الحكومة البريطانية السابق بشكل فج أزعج الأوروبيين كثيرا، ودفعهم إلى إغلاق باب التعاون والحوار معه حتى في ملفات أخرى.
بين أمريكا والاتحاد الأوروبي صلات واضحة، وتحالف قديم ازداد قوة بعد الحرب الأوكرانية.. إن لم تستطع ليز تراس التعامل بحكمة مع هذه الحقيقة فإنها ستواجه نوعا من الاتفاق الضمني بين الطرفين على تهميش دورها في السياسة العالمية، ووضع العصي في مسيرتها نحو حلحلة المشكلات الداخلية، التي تعيشها المملكة المتحدة.. وهي بالمناسبة، ليست مشكلات بسيطة أبدا، والتصعيد فيها لا تُحمد عُقباه.
تمتلك المملكة المتحدة عناصر قوة اقتصادية وسياسية كثيرة.. كما أن لديها إرثا كبيرا من التحالفات التي يمكن أن تحفظ لها مكانتها عالميا.. ولكن التغيرات المتسارعة التي تطرأ على السياسة الدولية، إضافة إلى التبدلات التي طالت العلاقات بين دول المملكة الأربع بعد "بريكست"، تستدعي من تراس وحكومتها التفكير بآليات ناجعة لاحتواء خلافاتها مع الحلفاء، والبحث عن السلام مع "خصوم" لا مفر من صداقتهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة