تجارة الموت الطائش في العراق.. بيع الأسلحة بالأسواق جهارا نهارا
تتوزع بسطات متناثرة في أسواق شعبية متعددة في بغداد، تمارس على الملأ بيع الأسلحة النارية دون خوف من ملاحقات سلطات الدولة العراقية.
ويجري ذلك في وقت يستعد فيه العراقيون للتوجه نحو انتخابات مبكرة بعد بضعة شهور، أملاً منهم في تغير الحال وخلاص البلاد من سطوة المليشيات والأحزاب الفاسدة برأيهم.
يتجمع عدد من الأشخاص حول "أبو أحمد"، الذي يعرض أسلحة للبيع تتنوع ما بين المسدس، وبنادق الكلاشنكوف.
وعلى مسافة أمتار منه تقف دورية للشرطة الاتحادية مهمتها المحافظة على انسيابية الشارع من زحام السيارات وأصحاب العربات الجوالة.
في ذلك السوق الذي يقع في شرق العاصمة بغداد، تظهر الأسلحة عبر الدكاكين المشيدة على الشوارع والأرصفة العامة، وكذلك الذخائر الحية وبنادق الصيد، فضلاً عن إكسسوارات عسكرية غالباً ما يكون زبائنها من "العناصر الأمنية".
يضع أبو أحمد طلقات حية داخل بندقية يبدو أنها ذات طراز قديم ومن نوع نادر، تمهيداً لإتمام عملية بيعها لرجل خمسيني قضى نحو نصف ساعة في مجادلة صاحب البسطة على سعر الشراء وضمان جاهزيتها للرمي.
يقف أمام تلك البسطة من الجهة المقابلة، رجل مترهل البدن، يرتدي دشداشة سوداء ويتبعه صبي لا يتجاوز عمره 15 عاماً، وعلى مقربة منهما زبائن يتفحصون سلاحا يمسك عليه، وآخر كان مشدودا إلى خاصرته بحزام عسكري توزعت على سيره جيوب متجاورة مملوءة بالرصاص الحي.
في ذلك الزحام، تتعالى صيحات لباعة آخرين، يحاولون جذب انتباه المارة ممن يرومون شراء الأسلحة والبحث عن الذخائر الحية.
فيما ينشغل رجل ذو لحية كثة بتفكيك قطع متراكبة ويرميها على قطعة قماش فرشت على الأسفلت تبين فيما بعد أنها أجزاء منظار عسكري شديد الدقة.
جيش يرصد وعيون تتابع
يقف عند أطراف الشارع الرئيسي، الذي يحيط بتلك البسطات المتناثرة عند "سوق مريدي" الشهير، رجال موزعون على مسافات متفرقة، مهمتهم رصد أي تحرك قد يستهدف بائعي الأسلحة من قبل السلطات الأمنية.
وتشن القوات الأمنية العراقية حملات مداهمة واعتقال بين الحين والأخر لأماكن بيع السلاح غير المرخصة، لكن سرعان ما تعود تلك البسطات لمزاولة تجارتها غير المشروعة حال انتهاء تلك العمليات.
وعادة ما تسفر عمليات المداهمة الأمنية عن ضبط عشرات الأسلحة واعتقال مروجي تلك البضائع، كان آخرها حملة كبرى نفذت في عهد حكومة حيدر العبادي عام 2017، استهدفت تلك الأسواق في مناطق متعددة في العاصمة بغداد.
يقول أحد المارة في سوق مريدي، رافضاً الكشف عن اسمه، إن بسطات الأسلحة تقف ورائها جهات وأحزاب مسلحة تمنع من محاسبة هؤلاء وتعريضهم للقانون.
ويتابع في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن أغلب الأسلحة التي تباع هنا تعود لغنائم حرب كانت المليشيات قد حصلت عليها خلال معارك تحرير المدن من سيطرة تنظيم داعش، وبالتالي فإنها تعتمد في جزء كبير على ما تعود به تلك الأسلحة من مردودات مالية.
ويستطرد بالقول إن "عملية بيع الأسلحة وتداولها في تلك الأماكن تجري وفق انسيابية عالية دون خوف من طائلة القانون لأن هنالك جهات أمنية تقدم الحماية والدعم لهؤلاء مقابل دفع الأموال لهم".
ويلفت زبون آخر إلى أن "هناك عصابات منظمة تدير تلك العمليات، وهي معروفة للكثيرين وترتبط بمليشيات وجهات مسلحة يصعب محاسبتها أو التعرض لتجارة الموت التي تروج لها".
ويوضح أن "سوق مريدي مكان اشتهر ببيع الأسلحة منذ سنوات طويلة، وليس ما يحدث اليوم حالة مستحدثة او قضية مفاجئة"، مؤكداً أن "الكثير من أفراد المؤسسات العسكرية يلجؤون إلى هذا المكان للحصول على أسلحة نادرة وحديثة وضمن أسعار أقل من المعروض في محال بيع الأسلحة المرخصة".
وتتراوح أسعار البنادق ما بين 400 و5000 دولار بينما تنحسر أسعار المسدسات ما بين 1000 إلى نحو 8000 دولار.
هاجس الخوف واضطراب الأمن
وينشغل الكثير من العراقيين بحيازة الأسلحة الشخصية تحت دواعي الدفاع عن النفس في ظل الأوضاع الأمنية المضطربة في البلاد منذ 2003.
ويقول الخبير الأمني طارق أنمار إن "رواج تلك البضاعة وتنامي أسواق بيع الأسلحة في العراق يرتبط بطبيعة الوضع الاجتماعي والأمني الذي أفرزته التغيرات السياسية في العراق ما بعد سقوط بغداد قبل 18 عاماً، بعد ان وجد المواطن نفسه بلا دولة أو جيش أو قوات أمنية".
ويضيف إن "تلك المرحلة أسست لفوضى تجذرت في وعي المجتمع العراقي رافقتها ظروف عمقت من تلك السلوكيات بينها الحرب الطائفية في 2006، وتسرطن المليشيات المسلحة وهشاشة السلطات".
ويؤكد أنمار لـ"العين الإخبارية" أن "تنامي تلك الظاهرة التي تهدد السلم والأمن الاجتماعي وتنذر بغياب الدولة وأضعاف هيبة القانون تفرض على صناع القرار الحكومي بشكل عام والمعنيين بالملف الأمني إيجاد معالجات تشتغل على رأب الصدع الاجتماعي وتقديم الضمانات لتأمين حياة المواطنين قبل التوجه نحو تلك الأسواق ومطاردة باعة الأسلحة غير المرخصة".
من جانبه، يؤكد مسؤول أمني رفيع في وزارة الداخلية، طلب عدم الكشف عن اسمه، أن "إغلاق أسواق بيع الأسلحة غير المرخصة أمر من الصعب تحقيقه لأن هناك جهات نافذة في القرار الأمني مستفيدة من استمرار تلك التجارة المميتة، التي تعد قنوات لتصريف أسلحة تابعة لهم حصلوا عليها بطرق غير واضحة ومثيرة للشك".
ويستبعد أن تتم السيطرة على الأسواق غير المرخصة في بغداد وبقية المدن الأخرى بالمعالجات الحالية لكونها تستهدف تدفق وصول الأسلحة إلى الشارع ولا تقف عند المصادر الرئيسة التي تغذي تلك بسطات البيع تلك".
ويعاني العراق منذ نحو عقدين من انفلات كبير في مجال الأمن والسيطرة على السلاح المنفلت الذي يحصد أرواح المئات من المواطنين سنوياً.
ورغم حملات ضبط السلاح العشوائي، التي تنفذها السلطات الأمنية في العراق، غير أنها لم تتمكن من السيطرة على حصر وخطر الأسلحة النارية.
وكان البرلمان العراقي شرع عام 2017، القانون رقم 51، الذي يجيز لكل عائلة امتلاك قطعة سلاح شخصية واحدة، في مسعى للسيطرة على تفشي تلك الظاهرة.
ويمثل السلاح الذي يتحرك خارج نطاق الدولة أهم التحديات التي تواجهها حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، خاصة مع ارتفاع المطالبات بحصر تلك الأسلحة وضمان عدم تأثيرها على الناخب العراقي، الذي يستعد لخوض الانتخابات التشريعية الخامسة في يونيو/حزيران المقبل.