الأبقار في جنوب السودان.. إرث اجتماعي يصل لحد التقديس عند الدينكا
لم تكن ظاهرة نهب الأبقار في جنوب السودان، والتي نتجت عنها عمليات الاقتتال الأهلي، أمرا تولد من فراغ، فالأمر أكثر عمقا هناك.
وإنما تعود للمكانة الكبيرة التي تحتلها الأبقار في حياة معظم قبائل البلاد، خاصة الدينكا، إحدى أكبر المجموعات الرعوية بدولة جنوب السودان.
وتأتي أهمية الأبقار عند الدينكا من أن أفراد هذه القبيلة يعتمدون على الأبقار كمصدر لغذائهم الرئيسي المتمثل في الألبان.
كما يستخدمونها في الزواج والديات والغرامات، بل إنهم يستمدون أسماءهم من الأبقار التي يفاخرون بها، إلى درجة تكاد تصل لحد التقديس.
ويقول كون اجاك، أحد الرعاة من الشباب بمنطقة (تويج الشرقية) بولاية جونقلي: "إن الأبقار تمثل عماد حياتنا نحن الدينكا، فمن غيرها لن يكون لنا وجود أو ثقافة".
وأضاف: "نحن نفتخر بها ونعتني بها كثيرا، لأنها مصدر أسمائنا، ومصدر غذائنا، وكذلك نستخدمها في الزواج، فهي كل شيء بالنسبة لنا".
وتحدث بشيء من الفخر والاعتزاز بالأبقار قائلا: "نعيش من أجل أبقارنا التي هي حياتنا بكل بساطة".
وقبيلة الدينكا أكبر قبائل البلاد تنتشر في ثلثي دولة جنوب السودان، حيث تمتد مناطقهم من أقصى الشرق في الشمال والشرق بإقليم أعالي النيل، إلى جانب المناطق الواقعة شمال غربي البلاد في إقليم بحر الغزال وولاياته.
وتعتمد الدينكا على الرعي بصفة رئيسية إلى جانب الزراعة وصيد الأسماك، حيث تنقسم حياتهم إلى مواسم تحددها حركتهم الموسمية في سبيل البحث عن المراعي.
ففي فصل الخريف يتواجدون مع أبقارهم داخل حدود مناطقهم الأصلية في القرى والمعسكرات.
فيما تجدهم يتحركون بأبقارهم في فصل الصيف إلى المناطق، التي توجد بها الحشائش ومصادر المياه من المستنقعات التي يطلقون عليها "التوج".
وأفراد الدينكا يفاخرون بالأبقار كثروة اجتماعية ثقافية، لكنها لا تدخل في دائرة الاقتصاد لديهم، فهي لا تباع ولا تذبح، فقط تمثل مركزا ثقافيا في حياة الدينكا الاجتماعية، فهي علاقة أقرب للتقديس، كإرث اجتماعي وثقافي، جعل منها ثروة مهدرة في التباهي.
ويرى صموئيل ميان، باحث مهتم بتراث وفولكلور الدينكا، أن أهمية الأبقار في حياة الدينكا تظهر في كافة عاداتهم وممارساتهم السلوكية.
وأوضح أن ثقافة الرقص عند الدينكا تظهر فيها حركة الأيدي، التي تحاكي قرون الأبقار وشكلها، لافتا إلى أنهم في الزواج يدفعون أغلى المهور.
ويضيف لـ"العين الإخبارية": "الدينكا كمجموعة يعتمدون على الأبقار في كل شيء في الغناء والزينة والزواج، حيث تجد مهر الفتاة الطويلة يكاد يبلغ 300 رأس من الأبقار، وكذلك يدفعونها في الديات في حالات القتل والغرامات الخاصة بجبر الضرر".
وأضاف أن كل تلك الاستخدامات للبقر يجعل الدينكا أكثر اهتماما وعناية بالأبقار خاصة الثيران.
وأرجع تفشي ظاهرة غارات نهب الأبقار إلى الأهمية القصوى التي تمثلها عند الدينكا.
وقال إنهم لا يستطيعون العيش بدونها، فالأبقار توازي وجودهم الحياتي تقريبا".
ويضيف ميان بالقول إنه على الرغم من اهتمام الدينكا الكبير بتربية الأبقار إلا أنهم لا يستفيدون منها من ناحية اقتصادية، لأنها انحصرت فقط عندهم في التباهي والتفاخر، حتى الدولة لم تستطع أن توظفها بالصورة المطلوبة بسب وجود الثقافة كعائق أمام استغلال تلك الثروات الضخمة التي بدأت تتحول لمصدر للأزمات والاقتتال بين المجتمعات المحلية.
وترتبط الأبقار بحياة الفرد عند الدينكا منذ مولده، إذ تبدأ بأسماء المواليد الذكور والإناث على حد سواء، والتي تكون غالبا مستوحاة من لون جلد الأبقار نفسها، فتجدهم يطلقون اسم (مبيور) على المولود الذكر وتعني "الثور الأبيض"، وكذلك اسم (مريال) على الثور الذي يجمع بين اللونين الأبيض والأسود.
وكذلك الحال بالنسبة للفتيات، حيث تجد أسماء مثل (أميير) أو (دِينق).
وعند البلوغ يتخذ الرجل الدينكاوي أيضا لقبا (ثورياً) من لون وشكل الثور الذي يطعنه قربانا في طقس التكريس الخاص بدخول مرحلة الرجولة، فيكون له اسم ولقب خاص به يعرف به وسط جيله وأبناء مجموعته العمرية.
ووفق ثقافة مجموعة الدينكا، فالرجل الذي يمتلك أعداد كبيرا من الأبقار تفوق الألف رأس في بعض الأحيان، يعتبر صاحب الثروة والحظوة والمكانة الاجتماعية الرفيعة، وتتم معاملته بتقدير كبير.
فالأبقار تدخل في التراتبية الاجتماعية والمكانة التي يجب أن يحتلها الشخص، لذلك يسعى الشباب للحصول عليها من زواج فتيات الأسرة أو من خلال الشراء أو في الأوقات الحالية عبر شن غارات مسلحة للاستيلاء على أبقار العشائر أو المجموعات المنافسة الأخرى من الدينكا أو مجموعة النوير الرعوية المجاورة لها.
ويعرف الشخص الذي يمتلك ثروة ضخمة من الأبقار بأنه غني، بينما الشخص الفقير عندهم هو الذي لا يمتلك عددا مقدرا من الأبقار، وإن كانت لديه ثروات أخرى كالأموال أو الأصول الثابتة.
وهي ما أكد عليه مكير دينق، أحد الشباب الموجودين بمعسكرات الأبقار بولاية البحيرات، بالقول إن الشخص الذي لا يهتم بجمع ثروة خاصة به من الأبقار لن يجد طريقه إلى الزواج، ولن يحظى بأي تقدير كبير في المجتمع الذي ينظر إليه كفقير.
ويضيف دينق بقوله لـ"العين الإخبارية": "عندنا في الدينكا، الشخص الذي لا يملك أبقارا لا يجد أية مكانة أو تقدير لأنه لا يستطيع الزواج، ولن يستطيع مشاركة الآخرين والمساهمة في بقية المناسبات التي تتطلب تبرعا بالأبقار، خاصة الغرامات أو زيجات الأصدقاء والأقارب، فنحن لا نهتم كثيرا بالمال، لأن المال لدينا هو الأبقار الموجودة عندك والتي يراها الناس يوميا".
وتعتبر معسكرات الأبقار أو (المراحات) واحدة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية المهمة بالنسبة لشعب الدينكا، فهنا يقضي الأطفال معظم حياتهم، يتحركون مع الأبقار، ويستخدمون روثها في الوقاية من الحشرات، من خلال إشعاله في النار والتمسح بالرماد الناتج منها، وهو ما يجعل لون أجسادهم بيضاء، مثلما يستخدمونه في الزينة والتجميل لدى الشباب والفتيات بل يذهبون إلى أبعد من ذلك باستخدام بول البقر في تغيير لون الشعر وصبغه باللون الأحمر أو البني.
aXA6IDMuMTM4LjEyNC4yOCA= جزيرة ام اند امز