كشفت جائحة كورونا أن السياسات الصحية في الدول الرأسمالية لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع قدرات تلك الدول في المجالات الأخرى
لست من دعاة الماركسية، ولكنني درستها بعمق شديد في مطلع حياتي الجامعية، ولست من الذين يؤمنون بفكرة الأيديولوجيا؛ حتى لو تمت نسبتها إلى الدين ذاته، قناعة بأن الأيديولوجيا تحجر على العقل، وتستعبد الإنسان، وتحوله إلى آلة محدود الإرادة أمام منظومة أفكار وضعها عقل إنسان في زمن سابق.
للأفكار تاريخ وجغرافيا، فهي تظهر في فترة تاريخية معينة لها ظروفها، وخصائصها، وشروطها، وكذلك تنمو في مجتمع معين محدد الخصائص الجغرافية: الطبيعية والإنسانية. وبتفاعل التاريخ والجغرافيا تصبح الأفكار صالحة لحالة إنسانية، ومجتمعية معينة، ولا تصلح لغيرها، فالأفكار لا يمكن استدعاؤها بالقوة، أو فرضها بالعنف والإجبار، ولعل النماذج التي رأيناها في فترة حكم الإسلاميين في السودان، وهيمنة الصحوة في السعودية، خير دليل على أن فرض الأفكار على المجتمع لا يؤدي إلى استقرارها، وازدهارها، وإنما تظل قشرة مفروضة بقوة فرضها، وما إن ترفع عنها هذه القوة تزول تلك الأفكار، كأنها لم تكن. ونفس الأمر ينطبق على الحالة في إيران والعراق، حيث يتجلى فرض الأفكار في أسوأ صوره، وسوف يزول.
وفي نفس الوقت فإنه ينبغي أن نتوقع أن الأفكار ستعود بصورة طبيعية عندما تتوفر الشروط والظروف التي ظهرت فيها، ومثلت بيئة تاريخية وجغرافية لنموها ونضوجها، لأن الفكرة قرينة بيئتها وظروفها وشروطها، إذا حضرت الظروف والشروط تحضر الفكرة تلقائيا. والناظر في علم الاجتماع الديني يجد أن نفس الظواهر الدينية تتكرر في نفس الظروف في مجتمعات تنتمي إلى أديان مختلفة بل متناقضة.
يجمع كل من تعمق في دراسة الماركسية، وعلى رأسهم أستاذي المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد، المفكر السوداني المعروف، على أن الماركسية هي الخلاصة الطبيعية، والنتيجة المنطقية لتطور الفكر الغربي، وأن كل ما جاءت به الماركسية من أفكار هو تداعٍ منطقي كان ولا بد أن تصل إليه الأفكار الأوروبية في نسخها المختلفة، وتقاليدها المتعددة، جميعها تقودنا إلى ما جاء به كارل ماركس، الذي يعتبر هو الكاتب الحقيقي لخاتمة كتاب الحضارة الغربية.
كشفت جائحة كورونا أن السياسات الصحية في الدول الرأسمالية في أوروبا وأمريكا لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع قدرات تلك الدول في المجالات الأخرى العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وأن الطبقات الدنيا ليست موجودة في الخطط الاستراتيجية لهذه الدول
لكن نظراً لتحول الأفكار الماركسية إلى حركة اجتماعية ثم نظم سياسية، كان لا بد على الحضارة الغربية أن تحاربها أو تلتف حولها، وتجهض خلاصاتها السياسية من خلال امتصاص جوهر منظومة القيم الماركسية، وتحويلها إلى سياسات اجتماعية كما الحال في بريطانيا وألمانيا، أو خلطها بالقيم الرأسمالية وإنتاج نموذج جديد هو الاشتراكية الديمقراطية الذي تتبناه الدول الإسكندنافية، أو أن تلتقط فكرة من هنا وأخرى من هناك في عملية ترقيع تختلف من حزب الى آخر كما الحال في السياسات الحزبية الأمريكية.
تعتبر السياسات الاجتماعية أهم وسيلة للتخلص من خطر الأفكار الماركسية على النظم السياسية الرأسمالية في أوروبا وامتدادها في أمريكا الشمالية وأستراليا، وتمثلت هذه السياسات الاجتماعية في الرعاية الصحية، والتعليم، والرعاية المعيشية في الدعم المالي للعاطلين عن العمل، أو الفقراء، أو محدودي الدخل. وظلت هذه السياسات فعالة ونافذة ومحققة لأهدافها حتى جاءت جائحة كورونا لترفع الغطاء عن خواء سياسي لم يكن يخطر ببال أكثر الباحثين تشاؤماً.
لم يكن يتصور أحد أن النظم السياسية في أوروبا وأمريكا هي نظم مصممة لتحقيق المصالح الرأسمالية للطبقات العليا في المجتمع، وأن فكرة المشروع الخاص، والقطاع الخاص قد أفقدت تلك النظم المقومات الدنيا لتحقيق السياسات الاجتماعية التي حققت لها الحماية من الأفكار والحركات الماركسية التي كانت غاية في النشاط والفاعلية في السبعين سنة الأولى من القرن العشرين.
لقد كشفت جائحة كورونا أن السياسات الصحية في الدول الرأسمالية في أوروبا وأمريكا لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع قدرات تلك الدول في المجالات الأخرى العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وأن الطبقات الدنيا ليست موجودة في الخطط الاستراتيجية لهذه الدول، وإنما تم تسليم هذه الطبقات لمفاعيل سوق العمل، ولليد الخفية للرأسمالية، ولذلك عندما جاءت أزمة من خارج الإطار الاقتصادي ظهر مدى الفشل الذي تعاني منه تلك الدول.
وفي المقابل كانت الدول التي تشكلت مؤسساتها ونظمها طبقا للأفكار الاشتراكية الماركسية في الصين وروسيا وكوبا هي الأقدر على مواجهة تلك الأزمات، وهي التي تمد يد العون للنظم الرأسمالية العريقة من إيطاليا وفرنسا حتى أمريكا القوة العظمى الكبرى في العالم، لقد ظهر جليا للشعوب في تلك الدول أن روسيا والصين وكوبا الصغيرة الفقيرة أكثر قدرة من دولهم المملوءة بكل مكاييل وأوزان الفخر والغرور.
إن التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا ستكون أكثر قسوة من الأزمة الصحية ذاتها، ففي أقل من شهرين ارتفع عدد العاطلين في أمريكا من دون النصف مليون إلى سبعة ملايين عاطل، هؤلاء جميعا سرحتهم الشركات الكبرى، التي طلبت من العامل البسيط أن يشاركها الخسارة، سواء بتقليل ما يتقاضاه من أجر إلى النصف، أو أكثر، أو بطرده من وظيفته دون أمل في أن يعود إليها مرة أخرى، وذلك تحت شعار لا بد من مشاركة العمال في تحمل خسارة الشركات التي يعملون فيها، علما بأن هؤلاء العمال لم يشاركهم أحد بنفس القدر في مكاسب تلك الشركات. هنا سيتم استدعاء كارل ماركس ليوجه هذا السؤال لأصحاب تلك الشركات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة